العقل الكوانتي

يؤثر هذا النقاش أيضا في الهندسة العكسية للدماغ. إذا كان باستطاعتك هندسة دماغ مصنع من ترانزيستورات عكسيا، فإن هذا النجاح يعني أن الدماغ حتمي وقابل للتنبؤ. اسأله أي سؤال وسيعيد الجواب نفسه تماما. الحاسبات حتمية بهذه الطريقة، لأنها تعطي دوما الجواب نفسه عن أي سؤال.

لذا يبدو أن لدينا مشكلة. من جهة، تدعي ميكانيكا الكم ونظرية الشواش أن الكون غير قابل للتنبؤ، وبالتالي يبدو أن الإرادة الحرة موجودة. لكن دماغا مهندسا بطريقة عكسية مصنوعا من ترانزيستورات سيكون بالتعريف قابلا للتنبؤ. بما أن الدماغ المهندس عكسيا مطابق نظريا للدماغ الحي، لذا فالعقل البشري حتمي أيضا، وليست هناك إرادة حرة. من الواضح أن هذا يناقض المقولة الأولى.

ّ تدعي أقلية من العلماء أنك لن تستطيع مطلقا هندسة الدماغ عكسيا، أو حتى خلق آلة تفكر بحق، بسبب النظرية الكوانتية. الدماغ، كما يحاججون، جهاز كوانتي، وليس مجرد مجموعة من الترانزيستورات. بالتالي فمصير هذا المشروع هو الفشل المحتم. في هذا المعسكر الفيزيائي يوجد روجر بنروز من جامعة أكسفورد، العلامةّ  في نظرية النسبية لآينشتاين، وهو يدعي أن العمليات الكوانتية ربما هي المسؤولة عن وعي الدماغ البشري. يبدأ بنروز بالقول إن الرياضي كرت غودل برهن أن علم الحساب غير تام، أي أن هناك مقولات صحيحة في الرياضيات لا يمكن البرهنة عليها باستخدام بديهيات الحساب. بالمثل، ليست الرياضيات فقط غير تامة، لكن الفيزياء أيضا. يختم بالقول إن الدماغ أساسا جهاز ميكانيكي كوانتي، وأن هناك مشاكل لا يمكن لأي آلة أن تحلها بسبب نظرية غودل في عدم الاكتمال. لكن البشر يمكنهم حل هذه المعضلات باستخدام البديهة.

بالمثل فإن الدماغ المهندس عكسيا مهما بلغت درجة تعقيده مازال مجموعة من الترانزيستورات والأسلاك. في مثل هذا النظام الحتمي، يمكنك أن تتنبأ بدقة بتصرفه المستقبلي لأن قوانين الحركة معروفة جيدا. في النظام الكوانتي مع ذلك فإن النظام غير قابل للتنبؤ ضمنيا. كل ما يمكنك حسابه هو احتمال أن شيئا ما سيحدث، بسبب مبدأ عدم التأكد.

إذا تبين أن الدماغ المهندس عكسيا لا يمكنه إعادة إنتاج التصرف البشري، فربما يضطر العلماء إلى الاعتراف بأن هناك قوى لا يمكن التنبؤ بها تعمل (أي تأثيرات كوانتية داخل الدماغ). يحاجج الدكتور بنروز بأن هناك داخل العصبون بنى ضئيلة، تدعى أنابيب ميكروية، تسيطر فيها العمليات الكوانتية.

لا يوجد في الوقت الحاضر إجماع بشأن هذه المسألة. بالحكم على ردود الفعل على فكرة بنروز عندما اقترحت لأول مرة، من المضمون القول إن معظم المجتمع العلمي يشك في مقاربته. لكن العلم ليس سباقا على الشعبية، لكنه بدلا من ذلك يتقدم من خلال نظريات قابلة للاختبار والتكرار والتخطئة.



من جهتي أعتقد أن الترانزيستورات لا يمكنها أن تنمذج تصرفات العصبونات كلها، والتي تقوم بحسابات رقمية ومماثلة. نعلم أن العصبونات متشابكة جدا. يمكنها أن تسرب وتخطئ في الإطلاق وتشيخ وتموت، وهي حساسة للبيئة. بالنسبة إلي يقترح هذا أن مجموعة من الترانزيستورات يمكنها فقط أن تنمذج بشكل تقريبي تصرف العصبونات. على سبيل المثال، رأينا سابقا عند مناقشة فيزياء الدماغ أنه لو أصبح محور العصبون أنحف، فإنه سيبدأ بالتسريب، ولن يقوم أيضا بالتفاعلات الكيميائية بشكل جيد. بعض هذا التسرب وعدم الإطلاق سينجم عن التأثيرات الكوانتية. ومع تخيلك لعصبونات أنحف وأكثف وأسرع تصبح التأثيرات الكوانتية أكثر وضوحا. هذا يعني أنه حتى بالنسبة إلى عصبونات عادية، هناك مشاكل تسرب وعدم استقرار، وهذه المشاكل موجودة بالميكانيكا الكلاسيكي وبميكانيكا الكم.

في الختام، فإن الإنسالي المهندس عكسيا سيعطي تقريبا جيدا لكنه ليس تاما للعقل البشري، وأعتقد أن من الممكن خلق إنسالي حتمي من الترانزيستورات يعطي مظهر الوعي، لكنه سيكون من دون أي إرادة حرة. سوف يجتاز اختبار تورنغ. لكنني أعتقد أنه ستكون هناك اختلافات بين مثل هذا الإنسالي والبشر بسبب تلك التأثيرات الكوانتية الصغيرة.

في النهاية، أعتقد ربما وجود إرادة حرة، لكنها ليست الإرادة الحرة التي يتصورهاّ  فرديون صارمون يدعون أنهم أسياد كاملون لمصائرهم. يتأثر الدماغ بآلاف العوامل من اللاوعي، والتي تهيئنا لاتخاذ خيارات معينة قبل وقتها، حتى لو اعتقدنا أننا قمنا بها بأنفسنا. لا يعني هذا بالضرورة أننا ممثلون في فيلم يمكن إعادته في أيّ  وقت. فنهاية الفيلم لم تكتب بعد، لذا فالحتمية الصارمة حطمت بمزيج معقد من التأثيرات الكوانتية ونظرية الشواش. في النهاية، لانزال أسياد مصائرنا.