الإرادة الحرة

حضارتنا كلها مبنية على فكرة الإرادة الحرة، التي تؤثر في فكرة الثواب والعقاب، والمسؤولية الشخصية. لكن هل الإرادة الحرة موجودة فعلا؟ أم هل هي طريقة ذكية لتحقيق ترابط المجتمع على الرغم من أنها تخالف المبادئ العلمية؟ يمضي الجدل إلى لب ميكانيك الكم نفسه.

من المضمون القول إن عددا متزايدا من علماء الأعصاب وصل تدريجيا إلى الاستنتاج بأن الإرادة الحرة غير موجودة، على الأقل ليس بالمعنى المألوف. إذا أمكن ربط بعض التصرفات الغريبة بأعطال معينة في الدماغ، فالشخص غير مسؤول علميا عن الجرائم التي قد يرتكبها. قد يكون من الخطر تركه يمشي في الطرقات، ويجب حبسه في مؤسسة من نوع ما، لكن معاقبته بسبب ضربة أو ورم في دماغه أمر خاطئ كما يقولون. ما يحتاجه ذلك الشخص هو المساعدة الطبية، أو العلاج النفسي. ربما أمكن علاج العطل الدماغي (بإزالة الورم على سبيل المثال) ويمكن للشخص بعدها أن يصبح عضوا فعالا في المجتمع.

على سبيل المثال، عندما قابلت الدكتور سيمون بارون كوهين، وهو عالم نفس في جامعة كامبريدج، أخبرني أن العديدين (لكن ليس الجميع) من القتلة السفاحين لديهم خلل دماغي . تظهر مسوحات أدمغتهم أنهم يفتقرون إلى التعاطف عندما يرون شخصا آخر يتألم، وربما يسرون في الحقيقة بمشاهدة هذا التألم (في هؤلاء الأفراد تلمع اللوزة الدماغية والنواة المتكئة، وهما مركزا السرور عندما يرون فيلما لأناس يتألمون).

الاستنتاج الذي يمكن لبعض الناس الوصول إليه من هذا هو أن هؤلاء الناس ليسوا مسؤولين حقا عن أفعالهم الشنيعة، على الرغم من أنه يجب فصلهم عن المجتمع. هم يحتاجون إلى المساعدة وليس إلى العقاب، نظرا إلى وجود مشكلة في أدمغتهم. بمعنى ما، ربما لا يتصرفون بإرادتهم الحرة عندما يقترفون جرائمهم.

تلقي تجربة قام بها الدكتور بنجامين ليبيت في العام  1985 الشك في وجودُ  الإرادة الحرة أساسا. دعنا نقل إنك تطلب من أشخاص أن يراقبوا ساعة، ثم تسجل بالضبط متى يقررون تحريك إصبع. باستخدام مسوحات  EEG يمكن للمرء أن يكتشف بالضبط متى يتوصل الدماغ إلى هذا القرار. عندما تقارن الوقتين، ستجد عدم تطابق. تظهر مسوحات  EEG أن الدماغ اتخذ بالفعل القرار قبل نحو ثلاثمائة ميللي ثانية من إدراك الشخص له.

هذا يعني أن الإرادة الحرة بمعنى ما، زائفة. فالدماغ يتخذ القرارات مسبقا، منّ  دون مدخل الوعي، ثم يحاول الدماغ بعد ذلك أن يغطي ذلك بالادعاء بأن القرار حصل بالوعي. يستنتج الدكتور مايكل سويني «اقترحت نتائج ليبيت أن الدماغ يعلم ما سيقرر شخص قبل أن ينفذه... على العالم أن يعيد تقييم ليس فكرة الحركات المنقسمة بين الإرادية واللاإرادية، لكن أيضا فكرة الإرادة الحرة ذاتها».

يشير هذا كله إلى أن الإرادة الحرة، وهي حجر الزاوية في المجتمع، هي اختراع ووهم خلق من قبل نصف الدماغ الأيسر. لذا، هل نحن أسياد مصائرنا، أو هل نحن مجرد أحجار شطرنج نتحرك من الدماغ في لعبة ما؟ هناك طرق عدة لمقاربة هذا السؤال الصعب. تذهب الإرادة الحرة ضد فلسفة تدعى الحتمية، التي تقول ببساطة إن حوادث المستقبل كلها محددة بقوانين الفيزياء. وفق نيوتن نفسه، فالعالم نوع من ساعة، تدق باستمرار منذ بدء الخلق وتطيع قوانين الحركة. وبالتالي فالأحداث كلها يمكن التنبؤ بها.

السؤال هو: هل نحن جزء من هذه الساعة؟ وهل أفعالنا كلها مقررة مسبقا؟ لهذه الأسئلة عواقب فلسفية ودينية. على سبيل المثال، تعتنق معظم الديانات نوعا من الحتمية والمصير المسبق. بما أن الله كلي القدرة والحضور والعلم فهو يعلم المستقبل وبالتالي فالمستقبل محدد سلفا. هو يعلم حتى قبل أن تولد فيما إذا كنت ستذهب إلى الجنة أم إلى النار.

انقسمت الكنيسة الكاثوليكية إلى قسمين بناء على هذا السؤال ذاته خلال الثورة البروتستانتية. وفق العقيدة الكاثوليكية في ذلك الوقت، يمكن للمرء أن يغ ّير مصيره النهائي بفعل الخير، عادة بتقديم منح مالية سخية إلى الكنيسة. بعبارة أخرى، يمكن تغيير الحتمية وفق حجم محفظة نقودك. أشار مارتن لوثر بصورة خاصة إلى فساد الكنيسة في بخصوص التبرعات عندما ألصق ورقته المؤلفة من  96 موضوعا على باب كنيسة العام  1517 مطلقا الإصلاح البروتستانتي. كان هذا أحد الأسباب الرئيسة لانقسام الكنيسة، مسببا ضحايا بالملايين، ومدمرا مناطق شاسعة من أوروبا.

لكن بعد العام  1925 أدخل مبدأ عدم التأكد إلى الفيزياء عن طريق ميكانيك الكم. وفجأة أصبح كل شيء غير مؤكد، كل ما يمكنك حسابه هو مجرد احتمالات.ّ  بهذا المعنى ربما توجد الإرادة الحرة، وهي صورة لميكانيك الكم. لذا يدعي البعض أن النظرية الكوانتية تعيد تأسيس فكرة الإرادة الحرة. لكن الحتميين ردوا على ذلك مدعين أن التأثيرات الكوانتية صغيرة جدا (على مستوى الذرات)، وهي صغيرة جدا لتعبر عن الإرادة الحرة لكائنات بشرية ضخمة.

الوضع اليوم مختلط حقا. ربما كان السؤال «هل توجد إرادة حرة؟» مثل السؤال «ما هي الحياة؟»، جعل اكتشاف الدنا السؤال عن الحياة باطلا. نحن نعلم الآن أن للسؤال طبقات وتعقيدات كثيرة. ربما ينطبق الشيء نفسه على الإرادة الحرة، وهناك أنواع عدة منها.

إذا كان الأمر كذلك، يصبح تعريف «الإرادة الحرة» نفسه غير مؤكد. على سبيل المثال فإن إحدى الطرق لتعريف الإرادة الحرة هي السؤال فيما إذا كان بالإمكان التنبؤُ  بالتصرف. إذا وجدت الإرادة الحرة عندها لا يمكن تحديد التصرف مسبقا. دعنا نقل إنك تشاهد فيلما، على سبيل المثال. العقدة محددة تماما ولا وجود لإرادة حرة على الإطلاق.

لذا فالفيلم قابل للتنبؤ تماما. لكن عالمنا لا يمكن أن يكون فيلما لسببين: الأول هو نظرية الكم، كما رأينا. يمثل الفيلم خطا زمنيا واحدا فقط. السبب الثاني هو نظرية الشواش. على رغم أن الفيزياء الكلاسيكية تقول إن حركات الذرات كلها محددة مسبقا، ويمكن التنبؤ بها، فإنه من المستحيل عمليا التنبؤ بحركاتها، لأن هناك عددا كبيرا منها. يمكن لأدنى اضطراب لذرة مفردة أن يحدث تأثيرا تموجيا يمكن أن يستمر ليخلق اضطرابات هائلة.

ّ فكر في الطقس. من حيث المبدأ، لو علمت تصرف كل ذرة في الهواء، يمكنك التنبؤ بالطقس بعد قرن من الآن لو كان لديك حاسوب ضخم. لكن هذا مستحيل عمليا. بعد ساعات قليلة فقط، يصبح الطقس مضطربا ومعقدا جدا بحيث يصبح أي تمثيل حاسوبي بلا فائدة.



يخلق هذا ما ندعوه «تأثير الفراشة» الذي يعني أن مجرد اضطراب أجنحة فراشة يمكنه أن يسبب موجات صغيرة في الجو تنمو ويمكن بدورها أن تتضخم إلى عاصفة. لذا إذا كان من الممكن لرفرفة أجنحة فراشة أن تخلق عاصفة، فإن الأمل بالتنبؤ بالطقس بدقة أمر بعيد المنال.

ُ دعنا نعد إلى تجربة التفكير التي وصفها لي ستيفن جي غولد. طلب مني أن أتخيل الأرض منذ  4.5 مليار سنة، عندما ولدت. تصور الآن أن باستطاعتك بطريقة ما خلق نسخة مطابقة عن الأرض، وأن تتركها تتطور. هل سنبقى هنا على هذه الأرض المختلفة بعد  4.5 مليار سنة؟

يمكن للمرء أن يتصور بسهولة، بسبب التأثيرات الكوانتية أو الطبيعة العشوائية للطقس والمحيطات، أن البشرية لن تتطور إلى الكائنات نفسها بالضبط على هذه النسخة من الأرض. لذا يبدو في النهاية أن مزيجا من عدم التأكد والفوضى يجعل عالما محتما تماما أمرا غير ممكن.

مصطلحات هامة

EEG المسح الكهربائي