نتائج وآثار مستقبل الدماغ

لهذا النقاش أيضا تأثير مباشر في مستقبل الدماغ. في الوقت الحاضر مازال علم الأعصاب بدائيا. يمكن للعلماء أن يقرأوا ويصوروا أفكارا بسيطة من الدماغ الحي،ّ  ويسجلوا بعض الذكريات، ويصلوا الدماغ بأذرع ميكانيكية، ويمكنوا المرضى المقعدين من التحكم في آلات حولهم، ويسكتوا مناطق معينة من الدماغ بالمغناطيسية، ويحددوا مناطق الدماغ التي يصيبها الخلل في الأمراض العقلية.

مع ذلك، ربما تصبح قوة علم الأعصاب في العقود القادمة كبيرة جدا. فالبحث العلمي الحالي على أعتاب اكتشافات علمية جديدة من المحتمل أن تذهلنا. قدّ  نتمكن في يوم ما من التحكم في الأشياء حولنا بشكل روتيني بقوة العقل، وأن نحمل ذكريات على العقل، وأن نعالج أمراضا عقلية، وأن نطور ذكاءنا، وأن نفهم الدماغ عصبونا عصبونا، وأن نخلق نسخا احتياطية للدماغ، وأن نتواصل بعضنا مع بعض بالتخاطر عن بعد. عالم المستقبل سيكون عالم العقل.

لم يشكك بيل جوي في إمكانية هذه التقنية في تخفيف الألم والمعاناة البشرية. لكن ما جعله ينظر إلى هذه التقنية بفزع كان احتمال تطور أفراد ربما يسببون انقسام البشرية. في المقال، رسم جوي صورة كئيبة لنخبة ضئيلة تمتلك الذكاء والعمليات العقلية المطورة، بينما تقبع جماهير الناس في الجهل والفقر. خشي أن ينقسم الجنس البشري إلى قسمين، أو ربما يتوقف عن أن يكون بشريا على الإطلاق.

لكن كما أشرنا مسبقا، فإن معظم التقنيات تكون غالية جدا عند إدخالها لأول مرة، وبالتالي تكون محصورة في الأثرياء فقط. لكن بسبب الإنتاج بالجملة وانخفاض تكلفة الحاسبات والتنافس والشحن الأرخص فإن التقنيات ستصل حتما إلى الفقراء أيضا. كان هذا هو المسار الذي سلكته تقنيات التصوير والراديو والتلفاز والحاسبات والحاسبات الشخصية والهواتف الخليوية أيضا.

بعيدا عن خلق عالم من الذين يملكون والذين لا يملكون، كان العلم هو محرك الازدهار. من الأدوات كلها التي طوعتها البشرية منذ بدء التاريخ، كان العلم أقواها وأكثرها إنتاجية. الثراء الواسع الذي نراه حولنا هو ثمرة مباشرة من ثمار العلم. ولتقدير دور التكنولوجيا في رأب خطوط الصدع الاجتماعية بدلا من تعميقها، فلننظر إلى حياة أسلافنا نحو العام 1900 . كان متوقع العمر في الولايات المتحدة عندها تسعا وأربعين سنة. مات العديد من الأطفال وهم في المهد. كان التواصل مع الجار يتم عن طريق الصراخ من النافذة. وكان البريد يوصل بالأحصنة، هذا إذا وصلّ  على الإطلاق. كان الدواء في معظمه زيت الأفاعي. وكانت المعالجة الفعالة الوحيدة هي البتر (من دون مخدر)، والمورفين لقتل الألم. كان الطعام يفسد خلال أيام. كما شكل المرض تهديدا مستمرا. وكان الاقتصاد قادرا على دعم حفنة فقط من الأغنياء، وطبقة صغيرة من الطبقة الوسطى.

غ ّيرت التقنية كل شيء. لم نعد مضطرين إلى البحث عن غذائنا، فنحن نذهب ببساطة إلى السوق المركزي. لم نعد نحتاج إلى حمل أغراض تقصم الظهر، إذ أصبحنا بدلا من ذلك نحملها بسياراتنا. (في الحقيقة، فإن التهديد الرئيس الذي نواجهه من التقنية، والذي قتل ملايين الناس، ليس الإنسالي القاتل أو الإنساليات النانوية المسعورة – بل هو أسلوب حياتنا المدلل، الذي خلق مستويات قريبة من الوباء من السمنة والسكري وأمراض القلب والسرطان وغيرها. وهذه المشكلة جلبناها نحن إلى أنفسنا).

نرى أيضا هذا على المستوى العالمي. خلال العقود القليلة الماضية شهد العالم صعود مئات الملايين من البشر من الفقر الطاحن لأول مرة في التاريخ. لو نظرنا إلى الصورة الأكبر، نرى جزءا مهما من الجنس البشري قد ترك حياة زراعة الكفاف المرهقة، ودخل إلى صفوف الطبقة الوسطى.

استغرق الأمر عدة مئات من السنين بالنسبة إلى الدول الغربية كي تصبح صناعية، ومع ذلك تنجز الهند والصين هذا خلال عقود قليلة، وهذا كله بسبب انتشار التكنولوجيا. بالتقنية اللاسلكية والإنترنت تستطيع هذه الدول تجاوز دولّ  أخرى أكثر تطورا مددت شبكات مدنها بمشقة. وبينما يصارع الغرب الشيخوخة، وبنية تحتية مدينية متداعية، تبني الدول النامية مدنا بكاملها بتقنية حديثة متألقة.

ّ (عندما كنت طالب دراسات عليا أحض الدكتوراه، كان على نظرائي في الصين والهند أن ينتظروا عدة أشهر إلى سنة للحصول على مقال من مجلة علمية. أيضا لم يكن لديهم اتصال مباشر مع العلماء والمهندسين في الغرب، لأن القليل منهم يمكنه تحمل نفقات السفر. أعاق هذا كثيرا انتقال التقنية التي سارت بسرعة جليدية بالنسبة إلى تلك الدول. أما اليوم، فيمكن للعلماء أن يقرأ بعضهم بحوث بعض فور وضعها على الإنترنت، ويمكنهم التعاون إلكترونيا مع علماء آخرين حول العالم. لقدّ سرع هذا كثيرا من تدفق المعلومات. ومع هذه التقنية جاء التقدم والازدهار).

الأكثر من ذلك، فليس من الواضح أن امتلاك نوع من الذكاء المتطور سيسبب انقساما كارثيا للجنس البشري، حتى لو لم يكن العديد من الناس قادرين على امتلاكه. في معظم الأحيان لا تضمن القدرة على حل معادلات رياضية معقدة، أو امتلاك ذاكرة قوية، مستوى أعلى من الدخل واحتراما أكثر من الزملاء، أو شعبيةّ  أقوى مع الجنس الآخر، وهي الحوافز التي تحرض معظم الناس. يتفوق مبدأ رجل الكهف على عملية تطوير الدماغ.

وكما لاحظ الدكتور مايكل غازانيغا: «إن فكرة أننا نتلاعب بأحشائنا هي فكرة مزعجة لكثير منا. وما ترانا فاعلين بهذا الذكاء المطور؟ هل سنستخدمه في حل قضايانا، أم أن كل ما سيقدمه لنا هو قائمة أطول من بطاقات المعايدة بعيد الميلاد؟».

لكن كما ناقشنا في الفصل الخامس، ربما يستفيد العمال العاطلون عن العمل من هذه التقنية، وذلك بتخفيض الزمن اللازم لإتقان تقانات ومهارات جديدة. لن يقلل هذا من المشاكل المرتبطة بالبطالة فقط، بل سيكون له أيضا تأثير في الاقتصاد العالمي، مما يجعله أكثر كفاءة واستجابة للتغيير.




نحن قمنا بانشاء سلسلة من مقاطع ريلز القصيرة العلمية على قناتنا في يوتيوب، واتمنى الحصول على دعمكم ومساندتكم حتى نستمر في نشر هذا المحتوى النافع، رابط القناة من هنا تابعونا.