دماغ بروكا

في العام 1861 ، بعد عام واحد فقط من وفاة غيج، تعززت هذه الفكرة من خلال عمل بيير بول بروكا، وهو طبيب في باريس وثق حالة مريض بدا عاديا غير أنه عانى قصورا شديدا في النطق. كان باستطاعة المريض أن يفهم الحديث، ويستوعبه تماما، لكن لم يكن في مقدوره النطق إلا بكلمة واحدة «تان.» بعد وفاة المريض، برهن الدكتور بروكا خلال التشريح أن المريض عانى جرحا في فص دماغه الأيسر، وهو منطقة من الدماغ قرب أذنه اليسرى. أكد الدكتور بروكا بعد ذلك اثنتي عشرة حالة مشابهة لمرضى مصابين بعطل في هذه الناحية بالذات من الدماغ. واليوم يوصف المرضى الذين لديهم عطل في الفص الصدغي، وعادة في نصف الكرة الأيسر، بأنهم يعانون حبسة بروكا (بصورة عامة، يمكن للمرضى المصابين بهذا الاضطراب أن  يفهموا الخطاب لكنهم لا يستطيعون النطق، أو أنهم يسقطون العديد من الكلمات أثناء حديثهم).

بعد ذلك بزمن قليل، وصف الطبيب الألماني كارل فيرنيكه حالات لمرضى عانوا مشكلة معاكسة. كان بإمكانهم النطق بوضوح، لكنهم لم يكونوا قادرين على فهم الخطاب المحكي أو المكتوب. كان باستطاعة هؤلاء المرضى غالبا التحدث بطلاقة، بقواعد صحيحة وجمل مضبوطة، لكن بكلمات لا معنى لها، وعبارات غير مفهومة. وللأسف لم يكن هؤلاء المرضى غالبا يدركون أنهم يتفوهون بكلام غير مفهوم. أكد فيرنيكه بعد إجراء عمليات تشريح أن هؤلاء المرضى كانوا يعانون عطبا في منطقة مختلفة قليلا في الفص الصدغي الأيسر.

شكلت دراسات بروكا وفيرنيكه علامات فارقة في علم الأعصاب، مؤسسة لصلة واضحة بين المشاكل السلوكية، مثل الإعاقة في النطق واللغة، والعطب في مناطق محددة من الدماغ.

حصل اختراق آخر خلال فوضى الحرب. خلال التاريخ، وضعت مبادئ دينية عديدة تحرم تشريح جسم الإنسان، مما أعاق بشدة تطور الطب. ولكن في الحروب، بوجود عشرات الآلاف من الجنود الجرحى الذين يموتون على ساحات المعارك،ّ  أصبحت الحاجة ملحة للأطباء لتطوير أي معالجة طبية فاعلة. خلال الحرب الدنماركية - البروسية في العام  ،1864عالج الطبيب الألماني غوستاف فريتش العديد من الجنود بجروح عميقة في الدماغ، ولاحظ بالمصادفة أنه عندما لمس منطقة معينة من نصف الدماغ، ارتعش الجزء المقابل من الجسم. برهن فريتش بصورة منهجية بعد ذلك أنه عندما حرض الدماغ بالكهرباء، فإن النصف الأيسر من الدماغ تحكم في
الجانب الأيمن من الجسم، والعكس صحيح (للمفارقة فقد سجل استخدام الأقطاب الكهربائية على الدماغ لأول مرة منذ ألفي عام من قبل الرومان. ففي العام  43ق. م تظهر السجلات أن طبيب البلاط للإمبراطور كلوديوس استخدم أسماك الرعاد المشحونة كهربائيا  على رأس مريض عانى أوجاعا شديدة في الرأس.

لم تحلل معرفة وجود ممرات كهربائية تصل الدماغ بالجسم منهجيا حتى ثلاثينيات القرن الماضي، عندما بدأ الدكتور وايلدر بينفيلد في العمل على مرضى الصرع، الذين يعانون غالبا تشنجات ونوبات مرهقة يمكن أن تهدد حياتهم. كان  الخيار الأخير بالنسبة إليهم هو إجراء جراحة دماغية، تضمنت إزاحة أجزاء من الجمجمة وكشف الدماغ. (بما أن الدماغ لا يملك حساسات ألم، يمكن للمرء أن يكون واعيا خلال العملية بكاملها، لذا استخدم الدكتور بينفيلد مخدرا موضعيا فقط خلال العملية).



ّ لاحظ الدكتور بينفيلد أنه عندما حرض مناطق معينة من قشرة الدماغ بقطب، استجابت أطراف مختلفة من الجسم لذلك. أدرك فجأة أن بإمكانه أن يرسم علاقة واحد - واحد بين مناطق معينة من قشرة الدماغ وجسم الإنسان. كانت رسومه دقيقة جدا بحيث إنها لاتزال تستخدم من دون تعديل تقريبا اليوم. في أحد الأشكال يمكنك رؤية أي منطقة من الدماغ تتحكم في أي وظيفة، ومدى أهمية كل وظيفة. على سبيل المثال، لأن أيدينا وأفواهنا ضرورية جدا لبقائنا على قيد الحياة، فإن قدرا كبيرا من طاقة الدماغ مخصصة للتحكم فيها، بينما نستطيع بالكاد تسجيل الحساسات في ظهورنا.

الأكثر من ذلك، فقد وجد بينفيلد أنه عند تحريض أجزاء من الفص الصدغي عاد مرضاه فجأة لتذكر ذكريات نسوها منذ زمن بطريقة واضحة جدا. صدم عندما تكلم أحد المرضى فجأة خلال عملية جراحية على الدماغ «كانت مثل... الوقوف أمام الباب في مدرستي الثانوية... سمعت والدتي تتكلم على الهاتف، وتخبر عمتي لتأتي إلينا في تلك الليلة» . أدرك بينفيلد أنه كان يتحسس الذكريات المدفونة عميقا في الدماغ. وعن دما نشر نتائجه في العام  1951، أحدثت تحولا آخر في فهمنا للدماغ .




نحن قمنا بانشاء سلسلة من مقاطع ريلز القصيرة العلمية على قناتنا في يوتيوب، واتمنى الحصول على دعمكم ومساندتكم حتى نستمر في نشر هذا المحتوى النافع، رابط القناة من هنا تابعونا.