جينات الذكاء

إضافة إلى الخلايا الجذعية، يشمل مسار آخر من البحث عزل الجينات المسؤولة عن الذكاء البشري. يشير علماء الأحياء إلى أننا نشبه الشمبانزي جينيا بنسبة 98.5  في المائة، ومع ذلك نعيش ضعف عمرها. وقد تضخمت مهاراتنا العقلية خلال الستة ملايين سنة الأخيرة. لذا فمن بين حفنة قليلة من الجينات، لا بد أن هناك جينات مسؤولة عن منحنا العقل البشري. وخلال بضع سنوات سيحصل العلماء على خارطة كاملة لهذه الاختلافات الجينية كلها، وربما سيكتشف سر طول فترة حياة الإنسان وتطوره عقليا ضمن هذه المجموعة الصغيرة. يركز العلماء على عدد قليل من الجينات التي ربما أدت إلى تطور الدماغ البشري.

ربما يقع الدليل الذي يظهر سر الذكاء في فهمنا لأسلافنا المشابهين للقردة. ويثير هذا سؤالا آخر: هل يجعل هذا البحث فيلم «كوكب القردة» Planet of the Apes  أمرا ممكنا؟

في هذه السلسلة الطويلة من الأفلام تحطم حرب نووية الحضارة الحديثة. ترتد البشرية إلى الحالة البربرية، لكن الإشعاع يسرع بطريقة ما من تطور قردة عليا أخرى، بحيث تصبح الأنواع المسيطرة على الكوكب. ينشئون حضارة متقدمة بينما يرتد البشر إلى متوحشين وسخين بروائح كريهة يتجولون نصف عراة في الغابة. في أفضل الأحوال، يصبح البشر حيوانات في حديقة للحيوانات. تنقلب الطاولة رأسا على عقب على بني البشر، بحيث تتفرج القردة علينا من خارج قضبان أقفاصنا.

في آخر جزء من السلسلة بعنوان «صعود كوكب القردة» يبحث العلماء في علاج لمرض ألزهايمر. في أثناء البحث يعثرون مصادفة على فيروس له نتيجة غير مقصودة، وهي زيادة ذكاء الشمبانزي. لسوء الحظ، يعامل أحد هذه القردة المطورة بقسوة عندما يوضع في مأوى للقردة العليا. باستخدام ذكائه المطور يتحرر القرد من الأسر، ويعدي حيوانات المختبر الأخرى بالفيروس، وبذلك يزيد من ذكائها، ثم يحررها كلها من أقفاصها. وسرعان ما تنطلق قوافل من قردة ذكية صارخة مسعورة على جسر غولدن غيت متغلبة تماما على الشرطة المحلية وشرطة الولاية. بعد مواجهة مثيرة ومخيفة مع السلطات، ينتهي الفيلم بعثور القردة سلميا على ملجأ لها في غابة ريدوود شمالي الجسر.

هل مثل هذا السيناريو واقعي؟ على المدى القصير لا، لكن لا يمكن استبعاده في المستقبل، لأن العلماء في السنوات القادمة سيتمكنون من تصنيف التغيرات الجينية كلها التي شكلت الإنسان العاقل. لكن يجب حل أسرار عديدة أكثر قبل أن نحصل على القردة الذكية.

أحد العلماء الذين لم يولعوا بالخيال العلمي بل بالجينات التي تجعلنا «بشرا» كانت الدكتورة كاثرين بولارد، وهي خبيرة في حقل كان بالكاد موجودا منذ عقد من السنين يدعى «المعلوماتية الحيوية» bioinformatics . في هذا الحقل من علم الأحياء يستخدم الباحثون، بدلا من تشريح الحيوانات لفهم كيف تتركب الأعضاء بعضها مع بعض، القوة الهائلة للحاسبات لتحليل الجينات في أجسام الحيوانات رياضيا. كانت بولارد في مقدمة الذين عثروا على جينات تحدد المضمون الذي يفصلنا عن القردة. حصلت على فرصتها في العام 2003 ، بعد تخرجها بدرجة الدكتوراه في جامعة كاليفورنيا - بيركلي.

تتذكر الدكتورة بولارد: «انتهزت الفرصة للانضمام إلى فريق دولي كان يحدد سلسلة قواعد ال دي أن إيه (الدنا) أو «الأحرف»، في جينوم الشمبانزي العادي».
كان هدفها واضحا. كانت تعلم أن خمسة عشر مليونا فقط من الأزواج القاعدية أو «الأحرف» التي تشكل جينومنا (من بين ثلاثة مليارات زوج قاعدي) تفصلنا عن الشمبانزي، أقرب جيراننا جينيا. (يشير كل «حرف» في شفرتنا الجينية إلى حمض نووي، حيث هناك أربعة منها يرمز لها بـ  A , T , Cو G. لذا يتألف جينومنا من ثلاثة مليارات حرف مرتبة على شكل ….ATTCCAGGG ).

كتبت: «كنت مصممة على اكتشافها.

يمكن أن يكون لعزل هذه الجينات تأثيرات ضخمة في مستقبلنا. عندما نتمكن من معرفة الجينات التي تؤدي إلى نشوء الإنسان العاقل، يصبح من الممكن تحديد كيفية تطور البشر. ربما يكمن سر الذكاء في هذه الجينات. وربما يكون من الممكن أيضا أن نسرع الطريق الذي يسلكه التطور، وحتى أن نزيد من ذكائنا. لكن حتى خمسة عشر مليونا من الأزواج القاعدية مازالت رقما ضخما لتحليله. كيف يمكنك العثور على حفنة من الإبر الجينية ضمن هذه الكومة الهائلة من الجينات؟

عرفت الدكتورة بولارد أن معظم جينومنا مؤلف من «دنا مهمل» لا يحتوي على جينات، ولم يتأثر عموما بالتطور. هذا الدنا الفائض يتحول ببطء بمعدل معروف (نحو  1 في المائة على مدى أربعة ملايين سنة). وبما أننا نختلف عن الشمبانزي في جيناتنا بنحو  1.5 في المائة، فهذا يعني أننا ربما انفصلنا عن الشمبانزي منذ نحو 6  ملايين سنة. لذا هناك «ساعة جزيئية» في كل خلية من خلايانا. وبما أن التطور يسرع معدل التحول هذا، فإن تحليل أين حصل هذا التسرع يسمح لنا بمعرفة الجينات التي تدفع عملية التطور.

فكرت الدكتورة بولارد أنها لو استطاعت كتابة برنامج حاسوبي يمكنه معرفة موقع معظم هذه التغيرات المتسارعة في جينومنا، فقد تتمكن من عزل الجينات التي أنشأت الإنسان العاقل بدقة. بعد أشهر من العمل الشاق والمعالجة وضعت في النهاية برنامجها في حواسب عملاقة في جامعة كاليفورنيا - سانتا كروز. وانتظرت النتائج بلهفة.

عندما جاءت النتائج المطبوعة من الحاسوب في النهاية، أظهرت ما كانت تبحث عنه: هناك  201 منطقة من جينومنا تظهر تغيرات متسارعة. لكن المنطقة الأولى في قائمتها هي التي أثارت اهتمامها.

تذكرت قائلة «بينما انحنى المشرف الدكتور ديفيد هوسلر فوق كتفي، نظرت إلى أعلى القائمة، كان هناك شريط من  118 قاعدة أصبحت تعرف بمجموعها بمنطقة التسريع البشري» HAR1 . 

كانت في غاية السرور. مرحى!

«لقد ربحنا الجائزة»، كتبت بعد ذلك. كان حلما تحول إلى حقيقة.

كانت تحدق في منطقة من جينومنا تحتوي على  118 زوجا قاعديا فقط، لها أكبر انحراف في التغيرات التي تفصلنا عن القردة. من هذه الأزواج القاعدية حدث 18 تحولا فقط منذ أصبحنا بشرا. أظهر اكتشافها المثير أن حفنة صغيرة من التحولات يمكن أن تكون مسؤولة عن انتقائنا من مستنقع ماضينا الجيني.

ثم حاولت مع زملائها أن تكتشف الطبيعة الدقيقة لهذه المجموعة الغامضة التي تدعى HAR1 . اكتشفوا أن  HAR1 استقرت بشكل كبير عبر ملايين السنين من التطور. انفصلت القردة العليا عن الدجاج منذ نحو  300 مليون سنة، ومع ذلك يختلف زوجان قاعديان فقط بين الشمبانزي والدجاج. لذا لم يتغير  HAR1 تقريبا لعدة مئات الملايين من السنين، إذ حصل تغيران فقط في الحرفين  G و C. مع ذلك، خلال ستة ملايين عام تحولت  HAR1 ثماني عشرة مرة، مما يمثل تسارعا هائلا في تطورنا.




لكن الأكثر أهمية هو الدور الذي مارسته  HAR1 في التحكم بالوضع العام للقشرة الدماغية، والمشهورة بمظهرها المجعد. يسبب عطب في منطقة HAR1  اضطرابا يدعى « lissencephaly » أو «الدماغ الأملس» مسببا انطواء القشرة بشكل غير صحيح. (ترتبط العيوب في هذه المنطقة أيضا بمرض الفصام). إضافة إلى الحجم الكبير لقشرتنا الدماغية فإن إحدى خصائصها الرئيسة تكمن في تجعدها والتفافها الكبيرين، مما يزيد كثيرا من مساحتها السطحية، وبالتالي من قدرتها الحاسوبية. أظهر عمل الدكتورة بولارد أن تغيير ثمانية عشر حرفا فقط في جينومنا كان مسؤولا بشكل جزئي عن أحد أهم التغيرات الجينية الكبيرة المحددة في التاريخ البشري، مما زاد كثيرا من ذكائنا. (تذكر أن دماغ كارل فريدريتش غاوس أحد أعظم الرياضيين في التاريخ حفظ بعد وفاته، وأظهر تجعدا غير عادي).

مضت قائمة الدكتورة بولارد إلى أبعد من ذلك وميزت عدة مئات من المناطق الأخرى التي أظهرت أيضا تغيرات متسارعة بعضها كان معروفا مسبقا. المنطقة FOX2 ،  على سبيل المثال، ضرورية لتطور الكلام، وهو خاصة رئيسة أخرى تميز البشر. (يجد الأفراد بعطب في المنطقة  FOX2 صعوبة في صنع حركات الوجه الضرورية للكلام). تعطي منطقة أخرى تدعى  HAR2 أصابعنا المرونة اللازمة للتعامل مع أدوات دقيقة.

أكثر من ذلك، بما أن جينوم النياندرثال (الإنسان البدائي) قد سلسل، فمن الممكن مقارنة تكويننا الجيني مع صنف أقرب إلينا من الشمبانزي. (عند تحليل جين FOX2 في إنسان النياندرثال، وجد العلماء أننا نشاطرهم الجين نفسه. وهذا يعني أن هناك احتمالا بقدرة النياندرثال على الكلام، وصنع الخطاب كما نفعل نحن.

هناك جين ضروري آخر يدعى  ASPM والذي يعتقد أنه مسؤول عن النمو السريع جدا لقدرتنا العقلية. يعتقد بعض العلماء أن هذا الجين وجينات أخرى قد تظهر لماذا أصبح البشر أذكياء ولم تصبح القردة كذلك. (يعاني الناس بنسخة مشوهة من جين  َ ASPM غالبا مرض صغر الرأس (الص َعل) وهو نوع شديد من التخلف العقلي، لأنهم يمتلكون جمجمة صغيرة بحجم جمجمة أحد أسلافنا الأسترالوبيثيكوس تقريبا).

تقفى العلماء عدد التحولات ضمن جين  ASPM ووجدوا أنه تحول نحو خمس عشرة مرة خلال الخمسة إلى الستة ملايين سنة الأخيرة منذ انفصالنا عن الشمبانزي. يبدو أن التحولات الأحدث في هذه الجينات تتعلق بعلامات فارقة في مسيرة تطورنا. على سبيل المثال، حدث أحد التحولات منذ أكثر من مائة ألف عام عندما خرج الإنسان الحديث من أفريقيا، بشكل لا يختلف في المظهر عنا. وحدث آخر تحول منذ  5800 سنة، مما يتزامن مع إدخال اللغة المكتوبة والزراعة.

ولأن هذه التحولات تتطابق مع فترات النمو السريع في الذكاء، فمن المغري التخمين بأن  ASPM هو واحد بين حفنة من الجينات المسؤولة عن ذكائنا المتزايد. إذا كان هذا صحيحا فربما نستطيع تحديد فيما إذا كانت هذه الجينات مازالت نشطة اليوم، وفيما إذا كانت ستستمر في تحديد مسار التطور البشري في المستقبل. هذه البحوث كلها تثير السؤال: هل يمكن للتحكم في حفنة من الجينات أن يزيد من ذكائنا؟ ممكن تماما.

يقرر العلماء بسرعة الآلية الدقيقة التي تتسبب فيها هذه الجينات في نشوء الذكاء. بصورة خاصة، يمكن لمناطق جينية وجينات مثل  HAR1 و ASPM أن تساعد في حل سر يتعلق بالدماغ. لو كان هناك تقريبا ثلاثة وعشرون ألف جين في جينومك، كيف يمكن لها إذن أن تتحكم في الوصلات التي تصل بين مائة مليار عصبون، تحتوي على ما مجموعه كوادرليون وصلة (واحد مع خمسة عشر صفرا أمامه)؟ يبدوّ  ذلك أمرا مستحيلا رياضيا. الجينوم البشري أصغر بنحو تريليون مرة ليرمز صلاتنا العصبونية كلها. لذا يبدو أن وجودنا نفسه استحالة رياضية.

الجواب ربما هو أن الطبيعة تتخذ عدة طرق مختصة في تشكيل الدماغ. أولا، العديد من العصبونات متصلة عشوائيا، بحيث إن مخططا تفصيليا ليس ضروريا، مما يعني أن هذه المناطق المتصلة عشوائيا تنظم نفسها بعد ولادة الطفل، وتبدأ بالتفاعل مع البيئة.

وثانيا، تستخدم الطبيعة أيضا نماذج تكرر نفسها مرة بعد أخرى. فلا تكاد الطبيعة تبدأ باكتشاف شيء مفيد حتى تقوم غالبا بتكراره. ربما يفسر هذا لماذا كانت تحولات حفنة من الجينات فقط مسؤولة عن معظم نمونا المعجز في الذكاء خلال الستة ملايين سنة الأخيرة.

لذا فالحجم مهم في هذه الحالة. لو عدلنا  ASPM وعدة جينات أخرى فلربما يصبح الدماغ أضخم وأكثر تعقيدا، وبالتالي يصبح من الممكن زيادة ذكائنا. (زيادة حجم دماغنا ليست كافية للقيام بهذا لأن طريقة تنظيم الدماغ مهمة جدا أيضا. لكن زيادة المادة الرمادية في دماغنا شرط ضروري مسبق لزيادة ذكائنا.

مصطلحات هامة

الكتابة ظهرت منذ  5800 سنة، أما الزراعة فظهرت منذ نحو  11000 سنة.
كوكب القردة  Planet of the Apes 
المعلوماتية الحيوية  bioinformatics
منطقة التسريع البشري HAR1 Human accelerated region 1
الدماغ الأملس  lissencephaly 



نحن قمنا بانشاء سلسلة من مقاطع ريلز القصيرة العلمية على قناتنا في يوتيوب، واتمنى الحصول على دعمكم ومساندتكم حتى نستمر في نشر هذا المحتوى النافع، رابط القناة من هنا تابعونا.