نماذج جديدة من الدماغ
تاريخيا، مع كل اكتشاف علمي جديد ظهر نموذج جديد للدماغ. أحد أقدم نماذج الدماغ كان القزم ، وهو شخص قزم عاش ضمن الدماغ واتخذ القرارات جميعها. لم تكن هذه الصورة مفيدة، لأنها لم تفسر ما كان يجري في دماغ القزم نفسه. ربما كان هناك قزم يختبئ داخل القزم .
مع قدوم الأجهزة الميكانيكية البسيطة، اقترح نموذج آخر للدماغ: نموذج آلة، كالساعة مثلا، بعجلات ومسننات ميكانيكية. كان هذا التشبيه مفيدا للعلماء والمخترعين مثل ليوناردو دافنشي الذي صمم فعلا رجلا ميكانيكيا.
خلال أواخر القرن التاسع عشر، عندما كانت الطاقة البخارية تنشئ إمبراطوريات جديدة، ظهر تشبيه آخر، وهو المحرك البخاري، حيث تتنافس تدفقات الطاقة بعضها مع بعض. أثر هذا النموذج الهيدروليكي، كما رأى المؤرخون، في تصور سيغموند فرويد للدماغ، حيث رأى أن هناك صراعا مستمرا بين ثلاث قوى: الأنا (تمثل الذات والتفكير العقلاني)، والهو ( التي تمثل الرغبات المكبوتة)، والأنا العليا ( التي تمثل وعينا). في هذا النموذج، لو تراكم ضغط كبير جدا بسبب النزاع بين الثلاث، فربما يحصل تراجع أو انهيار للنظام بكامله. كان هذا النموذج عبقريا، لكن كما اعترف حتى فرويد نفسه، تطلب هذا دراسات مفصلة للدماغ على المستوى العصبي ستستغرق قرنا آخر.
في أوائل القرن الماضي، مع صعود الهاتف، برز على السطح تشبيه آخر – وهو بدال هاتف ضخم. كأن الدماغ شبكة من الخطوط الهاتفية الموصولة مع شبكة واسعة. كان الوعي بمنزلة صف طويل من عاملات الهاتف يجلسن أمام لوحة ضخمة من المفاتيح، ويقمن باستمرار بوصل الخطوط وقطعها. لسوء الحظ لم يذكر هذا النموذج شيئا عن كيفية اتصال هذه الرسائل بعضها مع بعض لتشكيل الدماغ.
ومع صعود الترانزستور، أصبح نموذج آخر شائعا: الحاسوب. استبدلت محطات التحويل القديمة بالشرائح الميكروية التي تحوي مئات الملايين من الترانزستورات.
ربما كان «العقل» مجرد برنامج يعمل على «المادة الرطبة» (أي نسج الدماغ بدلا من الترانزستورات.) استمر هذا النموذج فترة طويلة، حتى اليوم، لكن له حدوده.
لا يمكن لنموذج الترانزستور أن يفسر كيف يجري الدماغ حسابات تتطلب حاسوبا بحجم مدينة نيويورك. إضافة إلى ذلك، لا يمتلك الدماغ برمجية، ولا جهاز تشغيل كنظام ويندوز (النوافذ) أو معالج بنتيوم. (كذلك فإن الحاسوب الشخصي بشريحة بنتيوم سريع جدا، بيد أنه يعاني قصورا معينا. يجب أن تمر هذه الحسابات جميعها من خلال معالج واحد. يعمل الدماغ على العكس من ذلك. إطلاق كل عصبون بطيء نسبيا، لكنه يعوض عن ذلك بشكل أكبر باحتوائه على 100مليار عصبون تعالج البيانات في الوقت نفسه. لذا يمكن لمعالج مواز بطيء أن يتفوق على معالج واحد سريع جدا).
أكثر التشبيهات حداثة هو تشبيه العقل بالإنترنت، التي تطلق في الوقت نفسه مليارات الحواسب. الوعي في هذه الصورة عبارة عن ظاهرة «بارزة،» تظهر بشكل معجز من العمل الجمعي لمليارات العصبونات. (مشكلة هذا التشبيه أنه لا يقول شيئا على الإطلاق عن كيفية حدوث هذه المعجزة. إنها تطوي تعقيد الدماغ كله تحت عباءة نظرية الشواش).
لا شك في أن كلا من هذه التشبيهات يمتلك جزءا من الحقيقة، لكن لا يلتقط أي منها تعقيد الدماغ تماما. لكنني مع ذلك وجدت أنه أحد التشبيهات المفيدة بالنسبة إلى الدماغ (على رغم أنه لايزال ناقصا،) وهو تشبيهه بمؤسسة ضخمة. في هذا التشبيه، هناك نظام بيروقراطي ضخم، وخطوط اتصال، وتدفقات كبيرة للمعلومات تجري بين مختلف الأقسام. لكن المعلومات المهمة تنتهي في مركز التحكم مع مديرُ المؤسسة. وهناك تتخذ القرارات النهائية.
لو صح تشبيه الدماغ بمؤسسة ضخمة، فيجب أن يكون من الممكن تفسير بعض الخصائص الخاصة للدماغ:
• تتمركز معظم المعلومات «في اللاوعي» – أي أن المدير، لحسن الحظ، غير مدرك للمعلومات الهائلة والمعقدة التي تتدفق باستمرار داخل بيروقراطيته. في الحقيقة فإن كمية ضئيلة فقط من المعلومات تصل في النهاية إلى طاولة المدير العام، الذي يمكن مقارنته بالقشرة الجبهية للدماغ. على المدير العام أن يعرف المعلومات المهمة التي تثير اهتمامه فقط، وإلا فسوف يشل بفيض هائل من المعلومات الدخيلة.
ربما كان هذا النظام منتجا ثانويا لعملية التطور، لأن أسلافنا كانوا سيغمرون بمعلومات فائضة في اللاوعي عندما يواجهون حالة طارئة. نحن لحسن الحظ غير واعين بتريليونات الحسابات التي تعالج في أدمغتنا. وعند مواجهة نمر في غابة، ليس على المرء أن يعبأ بحالة معدته وأصابع قدميه وشعره......إلخ. كل ما يجب معرفته هو كيف يهرب.
• «الانفعالات» عبارة عن قرارات سريعة تتخذ بشكل مستقل على مستوى أدنى.
ٍ بما أن التفكير العقلاني يأخذ عدة ثوان، فهذا يعني أن من المستحيل غالبا إجراء استجابة عقلانية لحالة طارئة؛ ولذلك فعلى مناطق الدماغ الأقل مستوى أن تقيم الوضع بسرعة وتتخذ القرار، انفعال ما، من دون إذن من المستوى الأعلى.
وبالتالي فالانفعالات (الخوف والغضب والاشمئزاز.......إلخ) هي استجاباتّ فورية تتم على مستوى أخفض، تولدت عبر عملية التطور لتحذر مركز التحكم من حالات خطرة أو حرجة ممكنة. تحكمنا الواعي في الانفعالات قليل. على سبيل المثال، مهما تدربنا على إلقاء خطاب أمام جمهور واسع، فإننا سنظل نشعر بالتوتر.
كتبت ريتا كارتر، مؤلفة كتاب «رسم خرائط العقل» ما يلي «ليست الانفعالات مشاعر على الإطلاق، لكنها مجموعة من آليات بقاء مزروعة في الجسم تطورت لتحولنا بعيدا عن الخطر، وتدفعنا إلى الأمام نحو أشياء ربما تكون مفيدة»
• هناك محاولات مستمرة لنيل اهتمام المدير العام. ليس هناك قزم أو معالج مركزي أو شريحة بنتيوم تتخذ القرارات، بدلا من ذلك فإن المراكز الفرعية ضمن مركز التحكم هي في حالة تنافس دائم بعضها مع بعض من أجل الحصول على اهتمام المدير العام. لذا ليس هناك نمط مستمر ناعم وثابت للتفكير، لكن هناك تداخلا لدارات مختلفة من التغذية الراجعة يتنافس بعضها مع بعض. إن فكرة وجود «أنا» ككل موحد ووحيد يتخذ القرارات كلها باستمرار هو وهم خلق من عقولنا اللاواعية.
عقليا، نشعر بأن عقلنا هو وحدة مفردة، يعالج المعلومات باستمرار وسلاسة، ويتحكم تماما في قراراتنا. أخبرني بروفسور الــ MIT مارفين مينسكي، وهو أحد الآباء المؤسسين للذكاء الاصطناعي، أن العقل أشبه بــ «مجتمع من العقول» ، بنماذج فرعية مختلفة يحاول كل منها التنافس مع الأخرى.
عندما قابلت ستيفن بينكر، وهو عالم نفساني في جامعة هارفارد، سألته كيف يظهر الوعي من هذه الفوضى. قال إن الوعي مثل عاصفة تهب في دماغنا .
أفاض في هذا عندما كتب أن «الشعور البديهي لدينا بأن هناك «أنا» منفذة تجلس في غرفة التحكم في دماغنا، تمسح شاشات الحواس، وتضغط على أزرار عضلاتنا، هو مجرد وهم . يبدو أن الوعي يتألف من خليط من الحوادث المتوزعة خلال الدماغ . تتنافس هذه الحوادث لنيل الانتباه. وعندما يتفوق حدث على آخر، يعقلن الدماغ النتيجة بعد الحقيقة، ويخترع الانطباع بأن ذاتا واحدة كانت تتحكم في العملية طوال الوقت».
ُ • تتخذ القرارات النهائية من قبل المدير العام في مركز التحكم. تخصص معظم البيروقراطية تقريبا لجمع المعلومات وترتيبها للمدير العام، الذي يلتقي مباشرة مع مدير كل قسم. يحاول المدير العام التوفيق بين المعلومات المتعارضة التي تتدفق على مركز التحكم. يتوقف الأمر هنا. على المدير العام المتمركز في القشرة الجبهية أن يتخذ القرار النهائي. وبينما تتخذ معظم القرارات بالغريزة في الحيوانات، يتخذ البشر قرارات على مستوى أعلى بعد تمحيص مجموعات مختلفة من المعلومات القادمة من الحواس.
• تتدفق المعلومات هرميا. وبسبب كمية المعلومات الهائلة التي يجب أن تتدفق للأعلى نحو مكتب المدير العام، أو للأسفل نحو العناصر المساعدة، يجب ترتيب المعلومات ضمن مصفوفات معقدة من الشبكات المتداخلة، وبعدد كبير من التفرعات. فكر في شجرة صنوبر، حيث مركز التحكم في الأعلى، وهناك هرم من الأغصان يتدفق من الأعلى نحو الأسفل، متفرعا إلى مراكز فرعية عديدة.
هناك بالطبع اختلافات بين مؤسسة بيروقراطية وبنية التفكير. القاعدة الأولى لأي بيروقراطية هي أنها «تتوسع لتملأ الفراغ المتاح لها.» لكن هدر الطاقة ترف لا يمكن للدماغ تحمله. يستهلك الدماغ نحو عشرين واط من الطاقة فقط (وهي طاقة مصباح كهربائي معتم،) لكن هذه غالبا هي الطاقة العظمى التي يمكنه استهلاكها قبل أن يخرب الجسم. لو ولد طاقة أكبر، فإنه سيسبب تلف الأنسجة. لذا يستخدم الدماغ باستمرار طرقا مختصرة للحفاظ على الطاقة. سنرى خلال هذا الكتاب الطرق الذكية والمبتكرة التي صاغتها عملية التطور، من دون معرفتنا، لتجاوز هدر الطاقة.
مصطلحات هامة
القزم homunculus
الهو ID
الأنا ego
الأنا العليا Superego
نحن قمنا بانشاء سلسلة من مقاطع ريلز القصيرة العلمية على قناتنا في يوتيوب، واتمنى الحصول على دعمكم ومساندتكم حتى نستمر في نشر هذا المحتوى النافع، رابط القناة من هنا تابعونا.
0 تعليقات