المعنى والصورة

نُ َق ِّسم ردنا على هذه الأقوال إلى قسمين: الأول مقارنة بين المعنى والصورة، والثاني مقارنة بين المعنى واللفظ. ونبدأ بالكلام على الصورة المركبة، فنقول: إن الحصول على صورة من هذا القبيل يقتضي أن تكون الصور الجزئية قليلة العدد شديدة التشابه، فإذاُ حذفت إحداها أو أضيفت أخرى تَ َّ عدلت الصورة الناتجة عنها. فالصورة المركبة صورة متوسطة للصور الجزئية المستخدمة في إنتاجها، ولها فقط؛ وهي لا تعتبر مشتركة في الحقيقة إلا بالقياس إلى الصور الجزئية الحادثة هي عنها، وبالقياس إلى الذي يعرف هذه الصور الجزئية. أما إذا لم نعرفها، فالصورة المركبة تكون بالقياس إلينا صورة جزئية معينة بأعراض خاصة كواحدة من تلك الصور؛ إذ إنها إنما تمثل الملامح المحسوسة لطائفة من الموجودات معينة. وعلى ذلك يستحيل الحصول على صورة مركبة إذا ما تباعدت المشابهات المحسوسة بين أصناف النوع الواحد، ومن باب أولى بين أنواع الجنس الواحد: كيف نحصل على صورة متوسطة للإنسان باستخدام صور الأصناف البشرية من أبيض وأسود وأسمر وأصفر وأحمر؟ على أي شكل يظهر فيها الرأس والعينانَّ  والأنف والشفتان والقامة؟ إن كل أولئك يظهر على شكل مشو ٍه لمميزات كل صنف. وكيف نحصل على صورة متوسطة للحيوان باستخدام صور الأنواع الحيوانية، كالإنسان والقرد والأسد والثور والفرس والحوت والخفاش والقط … إلخ؟ وكيف نحصل على صورة متوسطة لمثلث أو اللون أو لغير ذلك من الأجناس؟

ً هذا فضلا عن أن الصورة المركبة أيٍا كانت هي صورة محسوسة، فلا يمكن أن تتكرر بالذات في كثيرين، بينما المعنى ينطبق بالذات على عدد لا يُحصى من الأفراد. قال ابن سينا (في كتاب النجاة): «إن الحس لا ينال الإنسان المقول على كثيرين، وكذلك الخيال؛ فإنك أي صورة أحضرتها في التخيُّل أو في الحس الجسماني، لم يمكنك أن تُ ِشرك فيهاَ  سائر الصور الشخصية؛ لأن ما يرتسم في الحس أو الخيال يكون مع عوارض من الكمً  والكيف والأين والوضع غير ضرورية في الإنسانية ولا مساوية لها». وقال أيضا: «ليس يمكن في الخيال البتة أن يتخيل صورة هي بحال يمكن أن يشترك فيه جميع أشخاص ذلك النوع (أي الممثل بالصورة)؛ فإن الإنسان المتخيل يكون كواحد من الناس». وهكذاِ  نعتقد أننا قد فرغنا من أمر الصورة المركبة وأبطلنا استشهاد الح ِّسيين بها.

على أننا نسلم بوجود الصورة المشتركة في مخيلتنا ومخيلة الحيوان الأعجم، يأتي اشتراكها من غموضها واقتصارها على خطوط عامة قليلة التعيين، وإنما يمكن ذلك؛ لأن الخيال قوة حية لا جامدة، وأن الإدراك فعل معنوي لا مادي فيحتمل التعيين. وإذا عدنا إلى التفاوت في أنفسنا، وجدنا أن المعرفة تتدرج من العام إلى الخاص: ففي دائرة المعرفة الحسية نذكر أننا إذا رأينا شيئًا عن بُ ً عد، فإننا ندرك كونه جسما قبل كونه حيوانًا، وكونه حيوانًا قبل كونه إنسانًا، وكونه إنسانًا قبل كونه هذا الشخص المعين. ويلاحظً  أرسطو في مطلع كتاب السماع الطبيعي — تأييدا لهذه القضية — أن الأطفال يميزون بين الإنسان واللاإنسان قبل أن يميزوا بين إنسان وآخر، ويدعون كل رجل أبًا وكل امرأةٍ  أما قبل أن يفردوا الأب والأم الحقيقيين عن باقي الرجال والنساء. وكذلك الحال في دائرةً  المعرفة العقلية؛ فإن العقل يدرك الماهيات في أول الأمر إدراكا إجماليٍا، ثم يخصص هذا الإدراك ويستكمله بتحليل الأشياء إلى عناصرها أو خواصها، أي بتجريدات متتالية.

ً فحين نقول إن التصور الساذج إدراك الماهية، لا نقصد أن العقل ينفذ فورا إلى صميم الأشياء ويبلغ دفعة إلى خصائصها الجوهرية. إننا لا نزعم للعقل الإنساني مثلً  هذه المقدرة، بل لا نخشى أن نعلن أنه لا يصل أبدا إلى ماهيات الماديات ولا يكشف عن فصولها النوعية، فلا يحدها الحد الذي يشترطه المنطق في العلم الكامل، اللهم فيما سوى الماهية الإنسانية التي نعرف أن النطق فصلها النوعي. ولعجز العقل عن حد المادياتً  فإنه يقنع برسمها أي بتعريفها تعريفا تجريبيٍا وصفيٍا بأعراض خارجة عن الماهية دالة عليها مميزة لها مما عداها باجتماعها لها دون غيرها. كما نشاهد في علومنا الطبيعية حيث تعرف العناصر الكيميائية بوزنها وألفتها وآثارها، وتعرف النباتات والحيوانات بالهيئة الخارجية والتكوين الداخلي ونوع الغذاء وما إلى ذلك. فليست المعاني سواء في كمال التصور، ولكنها تتفاوت: فمنها الغامض والواضح، ومنها المختلط والمميز.

الفارق الجوهري بين المعنى والصورة المشتركة، أو بين الحد والرسم، هو أن الصورة تشتمل على أعراض الشيء وأجزائه كما تبدو للحواس وحسب، وأن المعنى يتضمن علة الخصائص التي يمثلها. فحين نحد الإنسان بأنه حيوان ناطق، نحن نعلم أن الحيوانية والنطق علة جميع أفعاله وجميع خصائصه، كالحرية والأخلاق والدينً  واللغة والعلم والفن والاجتماع، فإن أولئك جميعا راجعة إلى النطق لازمة عنه. وحينٌّ  نعدد عناصر الصورة المشتركة للإنسان، فنقول إنه جسم حي حاس غير ذي ريش ولاَ وبَر يمشي على قدمين رأسه مرتفع إلى أعلى، نجد أننا نجمع عناصر محسوسة بعضها إلى بعض، ولا نعلم علة وجود هذه العناصر للإنسان. بل حين نُ َع ِّرفه بالخصائص المعقولة  اللازمة عن النطق دون النطق نفسه، فلا يكون تعريفنا إلا رسما كالرسم الجامعٍ  للعناصر المحسوسة، ولا يصير حد ِ ا إلا بذ ْك ً ر النطق أولا باعتباره الخاصية الأساسيةِّ  المقو ِّ مة للماهية المعبرة عما «هو» الإنسان والمفسرة لجميع خصائصه؛ لأنها هي العلة في كون الإنسان إنسانًا وكون هذه خصائصه. والأمر كذلك في الصورة المشتركة للساعة أو القاطرة أو الطائرة أو غيرها من الآلات؛ فإن الحيوان الأعجم يتصورها، ويتصورهاُ  الإنسان الجاهل حقيقتها، ولكن علة وجود أجزائها وعلة اجتماعها لا تُدرك إلا في معنى الساعة وهو أنها آلة لقياس الزمان، أو في معنى القاطرة أو في معنى الطائرة، وهذه المعاني معقولة غير محسوسة.

َّ فإذا كنا قد سلمنا أن الإنسان لا يتبين المعنى المعقول في الماديات، فقد كان مرادناً  التبين الصريح، وما نزال ندعي أن الإنسان يتبين الماهيات المادية نوعا من التبين، مستشهدين بالتجربة التي تُ ِرينا الحيوان الأعجم يستظل بالشجر، ويأكل العشب والثمر، وينتفع بغير ذلك من الأشياء، ثم لا يستعيض عما يفوته منها، ولا يحدث أي أثر إيجابي فيما حوله. بينما الإنسان يستنبت الشجر والعشب ويستخدم الأشياء وخصائصها على وجوه شتى كثير منها لم يعرض في الطبيعة. والعجماوات هي التي تقف عند الظاهر المحسوس الذي يقتصر عليه الحسيون، والإنسان ينفذ إلى ما وراء المحسوس من المعقول.

هذا فيما يختص بالماديات، أي بمعاني الدرجة الأولى من درجات التجريد. فإذاُّ  ارتقينا إلى ما فوقها قلنا بدون تحفظ ولا استدراك: إن العقل يدرك الماهيات. فمعاني الدرجة الثانية التي هي موضوعات الرياضيات معقولات صرفة من غير شك؛ فإنها بريئة عن المادة المحسوسة التي تحجب الماهية كما بينا، وهي لا تشتمل إلا على المادة المعقولةِ  التي هي السطح والخط مجردين عن كل كيفية حسية، فيستوعب العقل خصائصها، ويبرهن على هذه الخصائص بخاصية رئيسة مأخوذة من المعاني أنفسها، أي من الماهيات الممثلة في المعاني. وما الأشكال المتخيلة ههنا بإزاء المعاني سوى صورة جزئية ليست هي المقصودة بالحد والبرهان.

ومعاني الدرجة الثالثة المجردة عن كل مادة محسوسة أو معقولة، كمعاني ما بعد  الطبيعة والنفس والأخلاق والمنطق، شاهد أبلغ على إدراك العقل للماهيات؛ فإنها تتأبى على كل تخيل كما هو واضح، ومنها ما يطلع على أشياء متباينة الماهية بحيث لا يبقىُ  أي وجه لدعوى الحسيين أن معانينا عناصر محسوسة مشتركة ينضم بعضها إلى بعض بالتشابه: ما هي العناصر المحسوسة المشتركة بين تمثال وقصيدة وقطعة موسيقية وزهرة، وغيرها كثير، حين نصفها بالجمال؟ فإن قيل إن هذا الوصف غير مستفاد منها بل من أثرها فينا، أجبنا أننا نشعر تمام الشعور أن الوصف متجه إليها، وندرك بجلاء أنه إذا لم يكن لها صفة الجمال لم يكن لها أي أثر. ثم ما هي العناصر المحسوسة المشتركة بين الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة والسخاء، وغيرها من الفضائل حينُ  نجمعها تحت معنى الفضيلة؟ فإن س ً ئلنا بأي حق نجمعها هكذا، أجبنا أن هناك تشابها، ولكنه تشابه معقول غير محسوس يبدو في التعريفات التي نؤلفها لهذه المعاني بأجناس وفصول معنوية، كما سنبينه كلما صادفنا معنى من تلك المعاني العامة الشاملة التي هي أصول المعرفة الإنسانية.

الخلاف إذن بيننا وبين الحسيين قائم في أنهم يأبون الاعتراف بالمعقول، ويجهدون أنفسهم في رده إلى المحسوس. ويظهر هذا الخلط في نقدهم للمعنى المجرد؛ إذ يقولون إنهم لا يستطيعون أن يتصوروه لأنه غير معين، وهم يقصدون أنهم لا يستطيعون أن يتخيلوه، ونحن نقرهم على أنه لا يتخيل من حيث إن المخيلة قوة حسية عاجزة بطبعها عن تمثيل ما ليس بمحسوس. أما إن أريد بالتصور التعقل فهو مستطاع؛ إذ إن المعنى المجرد غير المعين من جهة الأعراض المحسوسة، معين تمام التعيين بعناصره المعقولةً  التي تدخل في تعريفه. وإذا عد تصور ً ا ناقصا لكونه لا يحتوي إلا على تلك العناصر، فإنه تصور تام ما دامت هي المقومة للماهية. فالتعريف الصحيح للتجريد ليس قولهم إنه انتزاع صورة جزئية من صورة جزئية أعقد، مثلما تفعل الحواس الظاهرة التي يُدرك كل منها كيفية معينة من كيفيات الشيء الواحد، فإن الصورة الجزئية لا تفسر المعنى على أي وجه أخذناها، والانتباه الذي يجعلون منه وسيلة التجريد لا يعطي الصورة  الواقع عليها أي قسط من التجرد، بل بالعكس يقوي جزئيتها: كانتباه البصر إلى لون شيء ما، فإنه يفسر انفصال اللون عن الشيء، ولكنه يدعه هذا اللون المعين في هذا الشيء المعين.

ً وإنما التعريف الصحيح للتجريد هو الذي يذكره ابن سينا نقلا عن المدرسةٍ  الأرسطوطالية، حيث يقول: «إنه انتزاع الكليات المفردة عن الجزئيات على سبيل تجريد لمعانيها عن المادة وعن علائق المادة ولواحقها». أو بكلمة واحدة: التجريد إحالة المحسوسً  معقولا. إننا نخطئ بلا مراء إذا تصورنا اللون أو الحركة أو الماهيات الجسمية مفارقةً  للأجسام لكونها مجردة عنها في تصورنا، أما إذا لاحظنا الحركة مثلا فيما يخصها بالذات، وهو أنها الانتقال التدريجي من مكان إلى آخر، بصرف النظر عن الموضوع المتحرك، وعن أعراض الحركة من اتجاه وسرعة وبطء، فليس في هذا التجريد كذب؛ لأن الموضوع المتحرك ومشخصاته لا تدخل في حقيقة الحركة، وليس فيه امتناع، وإنما هو عام عادي كما يشهد الوجدان وتشهد العلوم التي إنما مدارها على أمثال هذه المجردات. ومن عجب أن يغفل الحسيون شهادة الوجدان وشهادة العلوم تشبثًا بمبدئهم.