قراءة قديمة للكون

إن قصة الكون تمتد إلى ما وراء حدود أبصارنا وتجرى أحداثها ببطء شديد ، حتى أن تاريخ البشرية كلها-على ما يبدو لنا من طوله-يعد برهـة قـصـيـرة من مقاييس الزمن الكوني، لا تكاد تكفي لاستحداث أي تغير ملحوظ في تلك القصة الخالدة.

وعلـم الـكـون Cosmology حقل مـلـيء بـالأسـرار الغامضة ، وهو مجال بحث يشـمـل الـكـون كـلـه مـن كواكب ونجوم حتى بلايين المجرات التي تسبح في الفضاء حولنا.

ولسنا ندري على وجه التحديد فـي أي عـصـر من عصور التاريخ، كانت بداية الاهتمام بعلم الفلك،  ولعل تلك البداية كانت عندما تطلع الإنسان القد  إلى السماء ليلا بدهشة وبدأ يتأمل ما يرى ويراقبه ليلة بعد ليلة. وقبل أن يخترع الإنسان الكتابة ، كان قد أطلق الأسماء على الأجرام السماوية ، وقبل أن يعرف روعة الإيمان انحنى لصور رسمها للشمـس والقمر.

ولا شك أن علم الفلك كان معروفا قبل الميلاد بآلاف السنين يشهد بذلك ما تركه البابليون وقدماء المصريين وغيرهم من آثار سجلت ظـواهـر فـلـكـيـة معينة ، أو تم تشييدها على أساس من الأرصاد الفلكية الدقيقة. فقد قسم المصريون القدماء سنتهم الزراعية إلى ثلاثة فصول ، واتخذوا الوقت الذي يكون فيه نجم الشعري اليمانية في موقع معين في شرق السماء بداية لتلك السنة. فعندما يظهر هذا النـجـم ، كـان مـعـنـى ذلـك اقـتـراب وقـت فـيـضـان النيل ، كما أنهم عمدوا إلى نحت بواطن الجبال ليقـيـمـوا بـداخـلـهـا مـعـابـد ومدافن ، اتخذوا في عمارتها ونحتها شروطا فلكية ، كسقوط شعاع الشمس على جبهة المتوفى في أوقات محددة ، أو ظهور نجم معين في يوم من السنة خلال فجوة في سقف المقبرة.

ومنذ العصور الأولى قام الكهنـة بـتـعـيـين مـنـطـقـة الـبـروج  Zodiac وهـي النطاق الذي توجد فيه الشمس والقمر والكواكب دائما ، والشمس « تسير » في منتصف هذا الـنـطـاق عـلـى خـط يـسـمـى دائـرة الـبـروج Ecliptic ، وهذا النطاق يلتف حول السماء كلها ويقسم إلى اثني عشر برجا Signs of Zodiac  نعرفها معرفة وثيقة عن طريق التنجيم.

أما الرعاة فيما بين دجلة والفرات فقد كانوا يرون أن الأرض مـسـطـح يتناهى وراء الأفق ، أما فوق رؤوسهم فقد كانت تترامى القبة الفلكية والفضاء اللانهائي. وقد صورت لهم مخيلتهم أن مجموعات بعض النجوم قد اتخذت شكل الراعي  Bootes كالذي يقود أمامه قطيعا ، ورأوا أن النجوم تدور حول النجم القطـبـي  Polaris في مدى أربع وعشرين ساعة ، وأن الصـيـاد الأكـبـر Orion يشرق من الشرق ويذرع السماء قبل أن يغيب في الغرب.. أما الكواكب السيارة الخمس-التي كانت معروفة في ذلك الوقت-فقد كانت أغناما جوالة تدب ببطء بين النجوم ، وليس لها صورة تثبت على حال.

لا ريب أن الكثير من كتب القدماء فقدت ومنها كتب علم الفلك ، فصارت أفكارهم تصل إلينا عن طريق الحكايات والأساطير. وأشهـر الـكـتـب الـتـي وصلت إلينا هي كتاب بطليموس المسمى (المجسطي) ، وأما قبل ذلك فلدينا موسوعة أرسطوطاليس و آراء أفلاطون الفلسفية.

ويعتبر طاليس من أوائل من نعرف من الفلاسفة الذين تكلموا في علم الفلك ، واليه ينسب التنبؤ بكسوف الشمس الذي حدث عام  ٥٨٥ قبل الميلاد،  كما قام بقياس قطـر الـشـمـس الـزاوي  Angular Diameter فوجده جزءا مـن ستين جزء من البرج أي نصف درجة.

وجاء اناكسيماندر-مساعد طاليس-بنظريات غريبة عن القبة الفلكـيـة،  فكان يراها جسما صلبا فيه ثقوب ترى منها النار المتأججة خلفها ، فيخيل للرائي أنها النجوم والشمس والقمر ، ولنأخذ مثالا على منطق ارسطوطاليس- تلميذ أفلاطون-في كيفية إثبات كروية الأرض. إن القمر مـقـابـل لـلـشـمـس عند الخسوف الكلي ، فالإظلام بناء على ذلك ناتج عن ظل الأرض ، وللظل دائما حافة مستديرة مهما كان موضع البدر ، فالأرض إذن هي ذات الشكل المستدير أي أنها كروية.

واهتم علماء الإغريق بالشمس وتوابعها ، إلا أن تطور مـفـاهـيـمـهـم كـان بطيئا ، وقد استرعى انتباههم أن بعض النجوم تزيد لمعانا عن الأخرى وقد وصفوا هذه الفروق وصفا دقيقا. وقسموا النجوم بناء على ذلك إلى ستـة أقـدار Magnitudes ، وتم تصنيف المع نجـوم الـسـمـاء مـن الـقـدر الأول وذات اللمعان المتوسط من القدر الثاني والتي يـقـل لمـعـانـهـا عـن ذلـك مـن الـقـدر الثالث ، وفي الطرف الآخر من الجدول وضعت النجوم الـتـي لا تـكـاد تـرى بالعين المجردة في القدر السادس.

إن لمعان النجم ، كما تراه العين البشريـة ، لا يـعـتـمـد كـثـيـرا عـلـى لمـعـانـه الحقيقي بقدر ما يعتمد علي بعده عنا ، ومقدار لمعان النجم بالنسبة للعين المجردة يسمى بالقدر الظاهري ، وهذا يأخذ فـي الاعـتـبـار الـلـمـعـان الـذي يظهر عليه النجم فقط وليس لمعانه الحقيقي.

وقد كان الفلكي الإغريقي هيبارخوس (عام  ١٥٠ قبل الميلاد) هو أول من حاول تقسيم الأقدار الظاهرية للنجوم ، ففي مصنف يضـم اكـثـر مـن ١٠٠٠ نجم ، اتخذ هيبارخوس لألمع نجم القـدر الأول ومـد مـقـيـاس الأقـدار حـتـى القدر السادس وبقي هذا النظام في تقسيم اللمعان سائدا ، حتى تم إدخال المناظير الفلكية القوية جدا والألواح الفوتوغرافية شديدة الحساسية ، ليتمكن العلماء من اكتشاف نجوم أكثر خفوتا حتى وصل أخفت نجم ˆكن تصويره إلى القدر الثالث والعشرين.

ورسم أيضا علماء الإغريق صورة أخرى للسماء في محاولة منهم لتفسير تحركات الأجرام السماوية وأوضحت هذه الصورة ، التـي أكـمـلـهـا الـفـلـكـي بطليموس (سنة  ١٤٠ ميلادية) ، وأطلق عليها نظام بطليموس Ptolemaic ، أن الشمس والقمر والكواكب السيارة تدور حول الأرض في مسارات معـقـدة،  وأن الأرض هي مركز الكون وظلت هذه النظرية سائدة  ١٦ قرنا من الزمن.



وفي نظام بطليموس تتحرك الأجرام السمـاويـة كـلـهـا مـا عـدا الأرض. فكوكب المريخ مثلا يتحرك حول دائرة صغيرة هي الفلك الدائر الذي يتحرك مركزه أيضا في مدار آخر حول الأرض ، والمريخ يستغرق سنة لكي يدور مرة حول الفلك الدائر ، و  ٦٨٧ يوما ليدور في المدار الرئيسي حول الأرض ، أما الزهرة وعطارد-الكوكبان الواقعان ما بين الأرض والشمس-فيتحركان بشكل آخر ، فمركز الفلك الدائر لكل منهما قائـم عـلـى خـط مـرسـوم بـين الأرض والشمس ، وكل منهما يدور حول الفـلـك الـدائـر فـي أقـل مـن سـنـة وازدواج الحركتين يصنع التواء حلقيا ولهذا يتحرك الكوكبان حركة عكسية عندما يكونان في أقرب وضع لهما من الأرض.

أما الشمس والقمر فيتحركان في أفلاك دائرية صغيرة ، إنما في اتجاه معاكس لاتجاهات الكواكب كلها ، وبهذا النظام أمكن لبطليمـوس أن يـتـنـبـأ بمواضع الكواكب والأجرام السماوية الأخرى بـدقـة كـبـيـرة ، ولـكـنـه ارتـكـب خطأ بافتراضه أن الأرض هي مركز الكون.