التصور الساذج

المعنى المجرد الكلي

نفتتح القول إذن بإثبات مغايرة الأفعال العقلية للأفعال الحسية. ومتى ثبتت هذه المغايرة ثبتت أصالة العقل، وثبت له وجود خاص، من حيث إن كل فعل فله بالضرورةِ  فاعل معادل له. ونقصد بالأفعال العقلية على وجه التحديد الأفعال الثلاثة المعروفة في المنطق بالتصور الساذج والحكم والاستدلال (بنوعيه من قياس واستقراء) . ومعلوم أن التصور الساذج — أي البسيط — سمي كذلك بالنسبة على الحكم والاستدلال؛ فإنه محض إدراك معنى ما، كالعلم والإنسان والمثلث والفضيلة، بينما هما إدراك بإثبات أو نفي يجمعهما تحت اسم التصديق. وعلى هذه الأفعال يدور هذا الباب الأول.

المعنى يمثل ماهية الشيء المدرك، أي طبيعته دون تمثيل لما تبدو فيه الماهية أو الطبيعة من الأعراض. ويحصل عليه العقل بتجريد الماهية عن المادة الشخصية وعن الأعراض الملازمة للمادة، كالمقدار واللون والصوت والرائحة والطعم والحرارة والبرودة. ولما كانت الماهية الممثلة في المعنى مجردة هكذا عن كل ما يخصص الوجود الواقعي؛ فإن العقل يتصور إمكان تحققها في ما لا نهاية له من الأفراد، ولو لم تعرض عليه التجربة سوى فرد واحد لماهية واحدة. وبهذا الاعتبار يقال للمعنى المجرد إنه كلي، ويقال لأفراده إنها جزئيات لأنها بمثابة أجزاء له. وواضح أن التجريد سابق على تصور الكلية؛ لأن المعنى إنما يطلق على كثيرين لكونه غير متضمن لشيء مما يعين ويخصص في الواقع. وهذه الملاحظة على جانب عظيم من الأهمية، وهي تقتضينا ألا نقول «المعنى الكلي» إلاً  حيث تكون الكلية مقصودة فعلا، وأن نقول «المعنى» أو «المعنى المجرد» حيث نقصدً  الماهية فقط، أي المفهوم دون الماصدق، فنرفع لبس ً ا كان مثارا للخطأ عند كثيرين من الفلاسفة.

والتجريد على هذا النحو أساس «العلم» الذي هو وصول العقل إلى معنى الشيء، ومتى وصل العقل إلى معنى الشيء فقد عرفه بعلته، أي أدرك علة تكوينه وعلة خصائصه وعلة أفعاله. ولما كانت الماهية الممثلة في المعنى المجرد ثابتة، كان العلم بها ثابتًا لا يلحظً  تغير الأعراض ولا يتغير بتغيرها، فضرورة العلم لازمة من ضرورة الماهيات. وتبعا لذلك لا يكون العلم إدراك الجزء بما هو جزئي حاصل على كذا وكذا من الأعراض التي تميزه من سائر أفراد نوعه، بل يكون العلم إدراك الكلي، على حد القول المأثور عن أرسطو وأتباعه، أي إدراك الماهية المجردة التي هي كلية بالقوة من جراء تجردها، وتصير كلية بالفعل متى التفت العقل إلى جزئياتها الحقيقية والممكنة.

ويتفاوت التجريد على ثلاث درجات: في الدرجة الأولى يتناول العقل الشيء المادي كما هو ماثل في الصورة الخيالية، فيجرده عن أعراضه المحسوسة بالفعل، كمقداره وشكله ولونه وحرارته … إلى غير ذلك مما هو خاص بشخصه لا بماهيته ونوعه، مثلما نجرد صورة زيد عن أعراضه التي من هذا القبيل فنحصل على معنى الإنسان. بعد هذاً  التجريد يبقى المعنى مشتملا على مادة مخصوصة داخلة في حقيقة الماهية؛ فإن الإنسانً  يوجد حتم ً ا في لحم وعظم، لكنها مادة معقولة إجمالا، أي مجردة عن الأعراض. وهكذاٍ  الحال في سائر الكائنات الطبيعية، نتصور كلا منها في المادة التي تخص ماهيته لكن مجردة مجملة، والكائنات المتصورة على هذا النحو هي موضوعات العلم الطبيعية.

وفي الدرجة الثانية يتناول العقل هذه الموضوعات، فيجردها عن المادة المخصوصةَ  المجردة أو الإجمالية، فتبقى لديه المادة على العموم، وهي التي ل َّم ُ ا جردت على المادةً  المحسوسة شخصية وإجمالية لم تعد محسوسة، بل أضحت معقولة فقط، تتصور أبعاداً  وأشكالا ً ، أي خطوط ً ا وسطوح ً ا وحجوما دون أي عرض من أعراض الكائنات الطبيعية، فيحصل العقل بذلك على معنى الكمية المتصلة وينشأ علم الهندسة، ثم يحصل على معنى الكمية المنفصلة أو العدد، وذلك بالتمييز بين كميات متصلة مختلفة والجمع بينها، أو بقسمة الكمية المتصلة والجمع بين الأقسام، وينشأ علم الحساب الذي هو أكثرً  تجردا من الهندسة لعدم تعلق الأعداد بالمكان كتعلق الأبعاد والأشكال، وأخيرًا يحصلً  على معنى الكمية إطلاق ً ا، وينشأ علم الجبر الذي هو أكثر تجردا من الهندسة والحساب.

ً وفي الدرجة الثالثة يجرد العقل الشيء عن المادة المعقولة أيضا، فلا يبقى لديهً  سوى معنى الموجود، وهو معنى غير متعلق بالمادة بالذات؛ إذ قد يكون الموجود جسماً  وقد يكون روح ٍ ا. كذلك يلحظ العقل بعض معان توجد تارة في مادة وتارة في غير المادة: كالجوهر والعرض والكيفية والإضافة والقوة والفعل والكلي والجزئي والعلة المعلول والغاية والوسيلة، فيعلم العقل أنها تلحق الموجود من حيث هو موجود لا من حيث هو جسم طبيعي أو رياضي، ويحصل بذلك على موضوعات ما بعد الطبيعة. 

فالتجريد واسطة الاتصال بين العقل والوجود، وفيه ضمان موضوعية العلم وحقيقته. والفلاسفة الذين ينكرون العقل ويحاولون الاكتفاء بالحس (مثال هوبس لوك وهيوم ومل وسبنسر) ولا يستطيعون تسويغ العلم الذي يدور على الماهيات المجردة والقوانين الكلية، بينما الحس لا ينال سوى الجزئيات. والفلاسفة الذين يؤمنون بالعقل وينكرون هذا التجريد (أمثال ديكارت ومالبرانش وليبنتز وسبينوزا وكنط)، لا يستطيعون تعيين العلة الحقة للمطابقة بين العقل والأشياء.