أسئلة فلسفية

ّ أخيرا، ادعى بعض النقاد أن مسيرة العلم اندفعت كثيرا إلى الأمام في الكشف عن أسرار الدماغ، وهو كشف أصبح مهينا للإنسان ومحطا بكرامته. لماذا الفرحّ  عند اكتشاف شيء جديد، أو تعلم مهارة جديدة، أو التمتع بعطلة مريحة، إذاّ  كان من الممكن اختزالها كلها في بضع مطلقات أعصاب تنشط عددا قليلا من الدارات العصبية؟

بكلمات أخرى، كما اختزل علم الفلك البشر إلى أجزاء تافهة من غبار كوني يعومٍ  في كون لامبال، فقد اختزلنا علم الأعصاب إلى إشارات كهربائية تدور ضمن دارات عصبية. لكن هل هذا حقا صحيح؟

بدأنا نقاشنا بتسليط الضوء على سرين عظيمين في العلم كله: العقل والكون. لا يشتركان في تاريخ وقصة فقط، لكنهما يشتركان أيضا في فلسفة متماثلة، وربماّ  في مصير مشترك. قدم العلم، بكل قوته على التحديق في لب الثقوب السوداء والهبوط على سطح كواكب نائية، فلسفتين شاملتين عن العقل والكون: مبدأّ  كوبرنيكوس، والمبدأ الإنساني. كلاهما يتسق مع كل ما هو معروف في العلم، لكنهما متناقضان تماما.

ولدت الفلسفة العظيمة الأولى وهي المبدأ الكوبرنيكي باكتشاف المقراب منذ أكثر من أربعمائة سنة. يقول المبدأ إنه ليس هناك موقع مميز للبشرية في الكون. قلبت هذه الفكرة، التي تبدو بسيطة، آلاف السنين من الأساطير المحببة والفلسفات المهيمنة.

منذ قصة التوراة حول نفي آدم وحواء من جنة عدن لأكلهما تفاحة المعرفة، حصلت سلسلة من الهزائم المذلة. أولا، أظهر مقراب غاليليو بوضوح أن الأرض ليست مركز النظام الشمسي - وأن الشمس هي المركز. ثم قلبت هذه النظرية عندما اكتشف أن النظام الشمسي مجرد نقطة في مجرة درب اللبانة، تدور على بعد نحو ثلاثين ألف سنة ضوئية من المركز. ثم اكتشف إدوين هابل في العشرينيات أن هناك عددا كبيرا من المجرات. فجأة أصبح الكون أكبر بمليارات المرات. والآن يستطيع مقراب هابل الفضائي أن يظهر وجود حتى مائة مليار مجرة في الكون بكامله. لقد اختزلت مجرة درب اللبانة الخاصة بنا إلى نقطة ضئيلة في كون أوسع بكثير.

ّ خفضت نظريات كونية أحدث موقع البشرية في الكون. تذكر نظرية التضخم أن كوننا المرئي، بمائة مليون مجرة، هو مجرد نقطة في كون مضخم أوسع بكثير، بحيث لا يمتلك معظم الضوء الوقت الكافي للوصول إلينا حتى الآن من تلك المناطق النائية جدا. هناك مناطق شاسعة من الكون لا يمكننا رؤيتها بالمقراب، ولن نستطيع أبدا زيارتها، لأنه لا يمكننا السفر أسرع من الضوء. ولو كانت نظرية الأوتار الفائقة (وهي اختصاصي) صحيحة، فهي تعني أنه حتى الكون كله يوجد مع أكوان أخرى فيّ  فضاء فائق مكون من أحد عشر بعدا. لذا، فحتى الفضاء ثلاثي الأبعاد ليس الكلمة النهائية. المجال الحقيقي للظاهرة الفيزيائية هو الأكوان المتعددة المملوءة بأكوان فقاعية عائمة.

حاول كاتب قصص الخيال العلمي دوغلاس آدم أن يلخص الشعور المستمر بالهزيمة باختراع «دوامة المنظور الشامل» في روايته «دليل المسافر إلى المجرة» The Hitchhiker's Guide to the Galaxy . صممت الدوامة لتجعل كل شخص عاقل يجن. عندما تدخل الغرفة، فكل ما تراه عبارة عن خريطة ضخمة للكون بكامله. وعلى الخريطة هناك سهم ضئيل غير مرئي تقريبا يقول «أنت هنا».



لذا فمن جهة يشير المبدأ الكوبرنيكي إلى أننا مجرد حطام كوني لا قيمة له ينجرف بلا هدف بين النجوم. لكن من جهة أخرى فالبيانات الكونية الأخيرة كلها تتسق مع نظرية أخرى تقدم لنا الفلسفة المضادة : المبدأ الإنساني.

تقول هذه النظرية إن الكون ملائم للحياة. مرة أخرى، لهذه المقولة البسيطةٍ  ظاهريا مغاز عميقة. فمن جهة، من المستحيل معارضة أن الحياة موجودة في الكوكب. لكن من الواضح أن قوى الكون لا بد أن تع ّير لدرجة عالية من الدقة بحيث تجعل الحياة ممكنة. وكما قال الفيزيائي فريمان دايسون مرة: «يبدو أن الكون يعلم أننا مقبلون».

على سبيل المثال، لو كانت القوة النووية أقوى قليلا، لاستنفدت الشمس طاقتها منذ مليارات السنين، بسرعة أعلى من أن تسمح للدنا بالظهور على الأرض. ولو كانت القوة النووية أضعف قليلا، لما اشتعلت الشمس في المقام الأول، ولما كنا موجودين هنا.

بالمثل، لو كانت الجاذبية أقوى قليلا، لانهار الكون كله إلى كتلة كبيرة منذ مليارات السنين، ولحرقنا كلنا حتى الموت. ولو كانت أضعف قليلا لتمدد الكون بسرعة ليصل إلى مرحلة التجمد الكبير، بحيث نتجمد جميعا حتى الموت.

يمتد هذا التناغم الدقيق ليشمل كل ذرة في أجسامنا. تقول الفيزياء إننا مصنوعون من غبار نجمي، وإن الذرات التي نراها حولنا تكونت ضمن فرن نجم ملتهب. نحن حرفيا أطفال النجوم.

ّ لكن التفاعلات النووية التي حولت الهيدروجين إلى عناصر أثقل في أجسامنا معقدة جدا، وكان من الممكن إيقافها في مراحل عدة. عندها كان من المستحيل خلق عناصر أعلى لتكوين أجسامنا، ولما وجدت ذرات الدنا أو الحياة.

بكلمات أخرى، فالحياة ثمينة وإعجازية.

ّ هناك الكثير جدا من العوامل التي يجب أن «تنغم» بدقة، بحيث إن البعضّ  يدعي أن هذا ليس مصادفة. يوحي الشكل الضعيف من المبدأ الإنساني بأن وجود الحياة يجبر العوامل الفيزيائية للكون على أن تحدد بدقة شديدة. لكن الشكل القوي من المبدأ الإنساني يمضي إلى أبعد من ذلك، ليقول إن الله أو إن مصمما ما قد خلق الكون «بالشكل الصحيح تماما» لجعل الحياة ممكنة.

مصطلحات هامة

دليل المسافر إلى المجرة» The Hitchhiker's Guide to the Galaxy