العرب... والفلك

لم يكن لدى عرب الجاهلية دراسات منتظمة في علم الفلك ، ولا أرصاد مبنية على أساس الأجهزة العلمية ، بل إن معلوماتهم في هذا الشأن كانت لا تخرج عن رغبتهم في الاسترشاد بالـنـجـوم فـي الـصـحـراء لـتـحـديـد اتجـاه سيرهم خوفا من تعرضهم للهلاك في مجاهلها ، هذا بالإضافة إلى طبيعة حياتهم في الخلاء وجلوسهم أمام خيامهم في الليل، مما دفعهم إلى إمعان النظر الدائم في النجوم والكواكب واختيار أسماء لها كالشعري اليمانـيـة. وكان القمر اكثر الأجرام السماوية جذبا لانتباههم بسبب ذلك التغير الدوري المنتظم في أوجهه من النقصان والزيادة ، كما أنه أثار الدهشة لتغير مواقعه في السماء بين النجوم وعودته إلى مكانه الأول ، كل حوالي ثمانية وعشرين يوما يقطع فيها دائرة سماوية كاملة.

وقد قسم العرب في الجاهلية تلك الدائرة إلى ثمانية وعشرين قسما،  يحل القمر في كل منها يوما كاملا أو كما يظهر للراصد في كل قسم.. فهو في هذا أشبه بالمسافر كلما جن عليه الليل هرع إلى منزله للمبيت فيه حتى الصباح ، ولذا أطلقوا على تلك الأقسام اسم (منازل القمر). 

ظل حال الفلك عند العرب كما ذكرنا حتى ظهر الإسلام ، وبعد ذلك كان اهتمام الخلفاء موجها للفتوحات الجديدة وتثبيت دعائم الحـكـم اكـثـر مـن قرن ، وان كان بعضهم قد أبدى اهتماما بالعلوم ، إلا أن ذلك اقـتـصـر عـلـى الطب والتنجيم كما حدث أيام الدولة الأموية. ومند بداية حكم العباسيين بدأ تطور شامل في نهضة العرب العلمية ، وكانت تلك النهضة من القوة إلى درجة أن أصبحت اللغة العربية لغة علمية دولية ، على كل راغب في متابعة احدث التطورات والأبحاث العلمية دراستها واتقانها. فعندما تولى الحكـم الخليفة أبو جعفر المنصور (٧٧٥-٧٥٤ ميلادية ) ، رأى أن ينقل مقر الحكم إلى عاصمة جديدة بدلا من مدينة الأنبار على نهر الفرات ، فاختار لذلك موقع مدينة بغداد التي أصبحت فيما بعد اكبر مركز علمي يـسـعـى إلـيـه طـلاب المعرفة.

وقد عرف الخليفة المنصور بتشجيع العلم وحبه له ، فـالـتـفـت إلـى بـنـاء نهضة علمية شاملة وكان السـبـيـل إلـى ذلـك هـو الإفـادة ممـا وصـلـت إلـيـه الحضارات الأخرى ، فجمع حـولـه عـددا كـبـيـرا مـن الـعـلـمـاء الـذيـن أخـذوا يترجمون كل ما يقع تحت أيديهم من المراجع الأجنبية العـلـمـيـة ، وكـان مـن أهمها مرجع هام في علم الفلك اسمه (السدهانت) حرفه العرب فيما بعد إلى (السندهند) ، الذي أصبح بعد أن تمت ترجـمـتـه ، نـبـراسـا يـسـيـر عـلـى هديه علماء الفلك العرب منذ نصف قرن من الزمن.

و (السندهند) ليس كتابا واحدا: بل هو في الحقيقة خـمـسـة مـؤلـفـات منفصلة من أوائل ما كتب علماء الفلك في الهند ، ومن العلماء العرب الذين قاموا بترجمة (السند هند) واهتموا بعلم الفلـك ، إبـراهـيـم الـفـزاري الـذي اتجه أيضا إلى العناية بأجهزة الرصد فقام بصـنـع أول جـهـاز لـيـسـتـعـمـلـه العرب لتحديد ارتفاع النجوم والكواكب لاسـتـنـتـاج الـوقـت وخـط الـعـرض: والمسمى الإسطرلاب كما كتب عدة مؤلفـات فـلـكـيـة أهـمـهـا كـتـاب (الـعـمـل بالإسطرلاب لمسطح). وكلمة (الإسطرلاب) ، قال عنها بعض المؤرخين أنهـا مأخوذة عن الكلمة الفارسية (اشتاره ياب) ، وذكر آخرون أنها كلمة يونانية أصلها (اسطرليون) ، والمعنى في كلتا الحالتين هو متتبع النجوم.

وفي عهد الخليفة المأمون ، تم في بغداد إنشاء أكاديمية عـلـمـيـة أطـلـق عليها (بيت الحكمة) ، وألحقت بها مكتبة ضخـمـة ومـرصـد تم بـنـاؤه تحـت إشراف سند بن علي رئيس الفلكيين في ذلك الوقت ، وقد عزز هذا المرصد بأجهزة فلكية دقيقة واجتمع فيه حشد من كبار علماء الفـلـك ، دأبـوا عـلـى تسجيل أرصاد لمختلف الظواهر الفلكية بصفة مسـتـمـرة ، وذلـك لأول مـرة في تاريخ علم الفلك ، وكانت تلك الأرصاد تؤخذ بطريقة علمية وتسجل في مؤلفات عديدة.

وكان من أشهر الراصدين في ذلك الوقت ، أحمد بن عبد اللـه المروذي الشهير بالحاسب ، وقد أطلق عليه هذا اللقب من أجل مؤلفاته المبنية على الحسابات الفلكية ، كما أنه أول من أدخل طريقة تحديد الوقت أثناء النهار، برصد ارتفاع الشمس عند الأفق ، وهي الطريقة التي تبناها من بعده علماء العرب في أعمالهم الفلكية. وهناك أيضا فلكي شهيـر فـي عـهـد الخـلـيـفـة المأمون هو أبو العباس أحمد بـن الـفـرغـانـي ، الـذي ذاع صـيـتـه لـتـعـدد فـي الدراسات التي قام بها ، والمؤلفات الكثـيـرة الـتـي وضـعـهـا فـي عـلـم الـفـلـك وبخاصة كتاب (الحركات السماوية وجوامع علم النجوم) ، الذي ترجم إلى اللاتينية وصار أحد المراجع الهامة التي اعتمدت عليها دراسات علم الفلك في أوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر.

وتلا هؤلاء العديد عن علماء الفلك العرب مثل أبي عبد اللـه محمد بن عيسى المهاني ، الذي كان من أدق الراصدين العمليين وبخاصة في ظواهر الخسوف واقترانات الكواكب.

وأيضا أبو الحسين عبد الرحمن بن عمر الصوفي ، أحد كبار الفـلـكـين العرب الذين دفعوا عجلة النهضة الفلكية إلى الإمام ، ويشهد بذلك كـتـابـه الشهير (صور الكواكب الثابتة) الذي وضعه على أساس الأرصاد الدقيقـة لمواضع النجوم المختلفة ، وقياس مقدار لمعانها ثم توزيعها على المجموعـات النجمية في رسم دقيق لكل مجموعة مصورا مواضع نجومها بالنسبة لبعضها البعض ، وتلا ذلك جدول تفصيلي اثبت فيه أرقام تلك النجوم أو أسماءها التي اشتهرت بها إلى جانب نتائج أرصاده التي أجراها عليها من مختلـف الوجوه ، أما العالم الفلكي المعروف أبو الريحان البيروني ، فقد أضاف الكثير من معلوماته الفلكية في كتابه (القانون المسعودي).

لقد كان الاعتقاد السائد عند علـمـاء الـفـلـك الـعـرب أن الـكـون (جـسـم كروي متناه ني حواشيه ، بعضه ساكن في جوفه وما حول هذه الساكنات في أطرافه ، فهو متحرك حركات مستديرة مكانية حول الوسط الذي هو حقيقة السفل ومركز الأرض) ، ويقصدون بذلك أن الفضاء عبارة عن (مادة) متخذة شكلا كرويا ، والجزء الداخلي من هذه الكرة ساكن لا يتحرك ، بينما باقيها يدور حول نفسه دون أن يتحرك من مكانه إلى مـكـان آخـر ، بـيـنـمـا الأرض موجودة في الوسط بحيث ينطبق مركزها على مركز الكـون. وكـان عـلـمـاء الفلك العرب يرون أن الجزء المتحرك من الكون ، وهو ما سموه بالأثير ، هو ما توجد فيه النجوم والكواكب السبعة المعروفة آنذاك. أما الجزء الساكن فيحتوي على الأرض في الوسط ، وقسموا الجزء المتحرك إلى ثماني حلقات يختص كل كوكب بحلقة منها لا يتجاوزها ولكنه يتحرك في حدودهـا ، أمـا الكرة الثامنة فهي التي تحتوي على النجوم.

ولو نظرنا إلى ما أسموه بالكواكب السبعة (من القمر إلى زحل) لوجدنا أن الشمس-و قد اعتبروها كوكبا-تقع في وسطها ، ولذلك أطلق على الكواكب الثلاثة الداخلية (القمر وعطارد والزهرة) الكواكب السفلية ، بـيـنـمـا أطـلـق اسم الكواكب العلوية على (المريخ والمشترى وزحل).

ويرجع السبب في تسمية النجوم بالكواكـب الـثـابـتـة ، هـو أن أوضـاعـهـا بالنسبة لبعضها بعضا ثابت لا يتغير بمرور الأيام ، بينما للكواكـب الأخـرى حركات سريعة سواء بالنسبة لبعضها بعضا أو بالنسبة للنـجـوم. وهـم فـي هذا التقسيم اعتبروا كل ما هو متحرك بالنسبة للنجوم كوكبا ، فاستبعدوا من ذلك كوكب الأرض لأنهم لم يلمسوا حركتها في الفضاء سواء بالـدلـيـل الحسي أو العلمي ، بينما أدخلوا الشمس والقمر في مجموعة الكواكب على هذا الأساس.

وقد أطلق العرب على مجموعة الـنـجـوم اسـم (الـكـوكـبـة) Constellation مثل كوكبة الدب الأصغر وكوكبـة الـدب الأكـبـر والجـاثـي والـدجـاجـة وذات الكرسي.. الخ.



وتقسيم النجوم إلى كوكبات ، لم يمنع علماء الفلـك الـعـرب مـن اخـتـيـار أسماء خاصة لأكثر النجوم لمعانا في السماء ، وقد انتقلـت بـعـض الأسـمـاء العربية إلى اللغات الأجنبية وظلت مستخدمة كما هي حتى الوقت الحاضر مثل الطائر  Altair وأبط الجوزاء  Betelguese وفم الحوت  Fom Al Hout والغول  Algol  والرجـل  Rigel وفي العصر الفاطمـي ، بـرز عـبـد الـرحـمـن بـن يـونـس المصري كأحد الفلكيين المشهورين ، وقد رصد ابن يونس كسـوف الـشـمـس وخسوف القمر في القاهرة عام  ٩٧٨ ميلادية ، وهو أيضا الذي اخترع البندول وبنلك يكون قد سبق جاليليو بعدة قرون. أما القزويني-فإلى جانب اشتغاله بالقضاء-فقد كان معنيا بالتأليف في علم الفلك وقـسـم الـكـون إلـى عـلـوي وسفلي ، وقد عنى بالعلوي كل ما يتعلق بالسماء من كواكب وبروج ومدارات ومجرات والشمس والقمر ، كما تحدث عن كواكب الزهرة والمريخ والمشتري وعطارد وزحل وربط بين حركتي المد والجزر وتحركات القمر.