تعريف الحكم

قلنا إننا لا ندرك الأشياء بجميع خصائصها وأعراضها دفعة واحدة، ولكننا ندرك  الأعراض والخصائص شيئًا فشيئًا باستخدام حواسنا وإعمال الفكر، فنحلل الشيء إلىٍ  معان عدة ونحن نعلم أن هذه الكثرة متحققة فيه، فنردها إليه في قول يعلن أنها له، مثل قولنا: «سقراط فاضل»، ويسمى هذا تركيبًا. وقد نخطئ فنضيف إلى الشيء ما ليس له، فإذا تبينا خطأنا عدنا فاستبعدنا عن الشيء تلك الإضافة في قول يعلن أنها ليست له،ً  مثل قولنا: «ليس سقراط كافر ً ا»، ويسمى هذا فصلا ً أو تفصيلا باعتبار المقصود منهً  وهو الاستبعاد، ولكنه تركيب أيضا من حيث إنه تأليف بين معينين في صيغة سالبة.

هذا التركيب الموجب أو السالب مغاير للمعنى المركب المتصور دون إيجاب أو سلب، فليس تصورنا «الإنسان الشجاع» كتصورنا «هذا الإنسان شجاع»: في التصور الأول معنيان مؤلفان في ماهية واحدة، وفي التصور الثاني تقرير بأن المعنى المضاف موافق للشيء المعبر عنه بالمعنى المضاف إليه (أو غير موافق له). فالحكم يقتضي ثلاثة أفعال تمهد له: وهي تصور معنيين، والمضاهاة بينهما، وإدراك ما بينهما من نسبة توافق أوٍ  عدم توافق، فيعقب الحكم هذا الفصل الثالث توا، فإن إدراك النسبة مجرد العلم بإمكانً  إضافة معنى إلى آخر، وماهية الحكم الإضافة فعلا والتصديق بالنسبة.

أما أن الحكم تركيب بين معنيين، وأن التصور الساذج سابق عليه، فهذا ما يبدوً  واضحا وما قيل به أزمنة متطاولة. لكن بعض علماء النفس المعاصرين ارتأوا أن الحكمً  تصور إجمالي نحلله إلى المعاني المؤلفة له، أي إننا ندرك أولا كل موقف جملة ونعبر عنه بقضية، مثل: «أمشي »و«أعطي»، ثم ندرك جزأي القضية ونحصل على معنيين، فالمعنى الواحد يركب بحكم أو بجملة أحكام. هذا الرأي قائم على سوء فهم: فإنه إذا لم يكنً  تمايز جزأي الحكم سابقا عليه امتنع الحكم وامتنع التعبير عنه في قضية لعدم توافر المعاني والألفاظ التي نؤلف بينها، والتي يجب أن يكون لكل منها في ذهننا مدلول محدد ، مستقل عن مدلول الآخر. وإدراك موقف ما جملة هو إدراكه بوساطة ما لدينا من معان فتعقل طرفين سابق على الجمع بينهما، وإلا كان الجمع عبثًا. والأمر واضح للغاية في الحكم السالب؛ فإن المسلوب غير موجود، فلا يمكن أن يقال إننا ندركه في تصور تركيبي ثم نحلل هذا التصور إلى جزأيه، والمعنى الذي يكتسب بحكم أو بعدة أحكام مسبوقٍ  ضرورة بمعان أبسط منه تركب منها هذه الأحكام.

هذا التركيب يجيء إيجابًا أو سلبً ً ا. والإيجاب متقدم عموم ِ ا على السلب؛ لتقدم الوجود على اللاوجود، ولتقدم إدراك الوجود على إدراك اللاوجود، ولما هو بَ ِّ ٌين من أن السلب، لاحتوائه على أداة سالبة في العقل وفي اللفظ، فهو أعقد من الإيجاب، والأعقد متأخر عن الأبسط. وإذا سلمنا أن الحكم السالب احتجاج على حكم موجب ممكن، كما يقول برجسون، وأنه من ثمة متأخر عنه، كان هذا من الوجهة النفسية فقط، أي باعتبار كيفية صدور الحكم السالب، لا من الوجهة المنطقية أو الميتافيزيقية، أي باعتبار قيمة الحكم السالب، فلا نتابع رأيه أن الحكم الموجب منصب على الموضوع، وأن الحكم السالب تعليمي واجتماعي يصدر للإنكار: إن الحكم، موجبًا أو سالبًا، يفترض أننا قد وضعنا مسألة وضاهينا بين معينين، وهذه المضاهاة يمكن أن تحدث في بادئ الأمر في قضية سالبة بحيث يقع السلب على الموضوع كما هو الشأن في الحكم الموجب. فمن هذه الناحية نضع الحكم السالب والحكم الموجب على قدم المساواة، ونقول إن قسم حكم إلى موجب وسالب هي قسمة جوهرية.

من قسم الحكم هذه يلزم للحال خاصية تميزه من التصور الساذج، وهي أنه يتضمن بالذات الصدق أو الكذب. أجل إن الإحساس المطابق للمحسوس صادق، وإنً  التصور الساذج الواقع على ماهيته هو صادق أيضا، ولكن هذا الصدق غير ظاهر فيهما صراحة، على حين أنه ظاهر في الحكم حيث يعلن العقل أن الموضوع هو كذا فيبين عن عمله بمطابقته للموضوع. إن مثل الإحساس والتصور الساذج كمثل المرآة تعكس صور  الأشياء ولا تدري أنها تعكسها، على حين أن العقل في الحكم يعلم أنه يقول قولا يؤديٍ  معنى تاما يحسن السكوت عليه، إن لم يقابل بالإنكار.

والنسبة الحكمية قد تبدو إما بالمضاهاة بين معنيين مستفادين من الحس، كقولنا: «هذا الماء ساخن»، أو بالمضاهاة بين معنى مستفاد من الحس ومعنى آخر معقول، كأن نحكم بوجود نار لا نراها بسبب الدخان الذي نراه. أو بالمضاهاة بين معنيين معقولين، كأن نحكم بوجود صفة لا نراها لشيء لا نراه بسبب أثر نراه، فنقول: »النار عظيمة« بسبب شدة تكاثف الدخان. وهذه هي الحال كلما انتقلنا من معلول نراه إلى علة لا نراها صفة لا نراها ولكنها مقتضاه لها في نظر العقل. والأحكام التي من هذا القبيل صادقة ضرورية لا ينتقص من قيمتها خفاء المعنيين على الحس، فإن العبرة هي في النسبة بينهما وفي سبب إيقاعها.

وإنا لنلفت النظر إلى هذه النقطة، فقد اختلط الأمر على بعض الفلاسفة، وفي مقدمتهم الحسيون: فإذا قلنا إن لأفعال الكائن الحي علة نسميها النفس، وإن للعالم علة نسميها الله، قالوا إنهم لا يرون النفس ولا يرون الله، ونحن لا نطلب إليهم أن يروهما، بل أن يؤمنوا بوجودهما كما يؤمنون بوجود النار ولنفس السبب الذي هو ضرورة العلة. وإذا قلنا إن العلة الأولى غير متناهية، قالوا إن العقل الإنساني لا يتصور اللانهاية، ونحن لا ندعي أننا نتصورها، بل إننا نتصور ضرورتها للعلة الأولى. وغير هذا كثير سننبه عليه كلما صادفناه.

ومن الفلاسفة، وعلى رأسهم ديكارت وسبينوزا، من جافوا منطق أرسطو حتى تجاهلوا هذا الفهم للحكم، وقرروا أن في النفس معاني، وأن الحكم هو التصديق بالمعاني. قال ديكارت: إن العقل قوة انفعالية بحتة، وبالعقل وحده لا أثبت ولا أنفي، بل أقتصر على تصور الأشياء التي أستطيع أن أثبتها أو أنفيها؛ والإرادة هي القوة الفاعلية، وهي التي تحكم أي تثبت أو تنفي أو تمتنع من الإثبات والنفي. وقال سبينوزا: ليس المعنى شيئًا أخرس كالصورة المنقوشة، ولكنه قوة فاعلية؛ فإنه مصحوب بضرب من الشعور بوجود موضوعه ما لم يعارضه معنى آخر، فتصديقاتنا هي التصورات الغالبة فينا، وليس يوجد في النفس من إثبات أو نفي إلا من ينطوي عليه المعنى بما هو معنى.

ً لكنا لا نرى لهذه النظرية معنى ولا سندا: فليس من شأن الإرادة الإثبات أو النفي، التصديق أو الإنكار، إلا بتسويغ من العقل. فمتى كانت النسبة الحكمية بينة أثبتهاَّ  العقل وصد ً ق بها، ومتى كانت غير بينة نفاها العقل أو علق حكمه. فليس العقل منفعلاً  وحسب كما يقولون، وإنما هو فاعل أيضا. أجل كثيرًا ما تحرض الإرادة العقل علىً  الحكم لناحية أو لأخرى، تبعا لما يوحي به الاستعداد الشخصي من هوى، ولكنا هناً  أيضا نرجع إلى تقدير العقل؛ إذ إنا نزعم أن من المعقول أو من الخير أن نفعل كذا أو كذا. ومهما يكن من أمر الإرادة، فإن الوجدان يظهرنا على أن تفكيرنا وكلامنا مؤلفان من أحكام بالمعنى الذي نقصده، أي مركبة من موضوع ومحمول ورابطة بين الاثنين،ً  فيتعين اعتبار الحكم إطلاقا على هذا الغرار، ويتعين تفسيره، وهو لا يفسر إلا بالمعنىً  المجرد، فإن المحمول صفة أو معنى مجرد دائما، والموضوع معنى مجرد في كثير من الأحيان، أعني في الأحكام العلمية فإنها كلية ضرورية.

في كل ما تقدم لم نلحظ سوى الحكم البسيط أو الحملي، ولم نشر إلى الأحكام المركبة التي أهمها الأحكام الشرطية، والسبب في ذلك أن الأحكام المركبة تنحل إلى حمليات، وتخضع لقواعد الحمليات، فلا تثير مسائل جديدة. غير أن بعض الفلاسفة المعاصرين  اعتقدوا أنهم استكشفوا نوعا من الأحكام المركبة لم يذكره أرسطو ولا هو يرد إلى منطقهً  ولكنه يؤلف منطقا على حياله، ذلك هو الحكم الإضافي أو النسبي الذي يثبت إضافة أو نسبة بين شيئين، على حين أن الحكم الحملي يسند صفة إلى موصوف. ما أكثر ما نقول: «أكبر من» «ب» أو «هذا المثل غير مساو لذاك» إلى سائر ما هنالك من نسب: كالتشابه  والتخالف والتباين والتقارن والتعاقب والتساوي والع ِّليَّة … إلخ. فأكبر من «ب»، وغير  مساو لذاك، قول يعبر عن نسبة لا تقوم الموضوع ولا في حد المقارنة الوارد بعده، ولكنهً  يجمع بين النسبة وبين الحد الثاني ويكون من الاثنين محمولا مثبتًا للموضوع كأنه صفة له وجزء منه، وليس الحال كذلك. وقولنا: ««أ» و«ب»» غير متساويين يجعل منً  عدم المساواة محمولا ً مشتركا بين الحدين، وهذا واضح البطلان؛ فقد ضاهينا بين «أ» و«ب» ولم نضاه بين «أ» و«ب» من جهة وبين معنى عدم المساواة من جهة أخرى. وإذا قلنا: ««ح» متقدم على «د» أو««ح» و«د»» متعاقبان»  ، كان الحدان الحقيقيان «ح» و«د» مع إدراك نسبة تعاقب بينهما، لا «ح »من جهة والمحمول «متقدم على«د»»  من جهة أخرى، ولا «ح» و«د» من جهة والمحمول « متعاقبان» من جهة أخرى. وهكذا نصوغ الحكم في أمثال هذه النسب كأن الحد الثاني صفة للأول، فنرجع النسب الإضافية إلى نسبة الملائمة أو عدم الملائمة بين موضوع ومحمول.

ونحن نقول: لا يوجد منطق إضافي أو نسبي مستقل عن قوانين المنطق الحملي وقواعده، والقضايا الإضافية مركبة من موضوع ورابطة ومحمول كالقضايا الحملية: ««أ» (الموضوع )هو (الرابطة) أكبر من «»ب (المحمول) » إلا أن الرابطة تنصب على الموضوع لا كما هو في نفسه، فلا تعبر عن تقوم المحمول فيه، بل باعتبار الإضافة والنسبة بينه وبين الحد الآخر، أي في تصورنا إياه وقت عقد المقارنة، وحينئذ يتضمن الموضوع المحمول؛ إذ يكون معنى المقارنة أن «أ» بالنسبة إلى «ب» هو أكبر من «ب». كما نستطيع أن نجعل من النسبة غير المعينة موضوع ً ا، ومن تعيينها محمولا، فنقول: نسبة «أ» إلى «ب» (وهذا هو الموضوع) هي (الرابطة) نسبة أكبر إلى أصغر (وهذا هو المحمول). وفي الحالين إسناد محمول إلى موضوع كما هو الحال في الحكم الحملي. فالعقل على حق في تصور المحمول كالصفة في القضايا الإضافية، والمنطق واحد لم يتعدد.