المعنى واللفظ

ً بل إن مبدأهم قد ساقهم إلى أشهد من هذا خلفا وأدعى للعجب؛ ذلك أنهم لم يؤمنوا بالمعاني وآمنوا بالألفاظ. فقد مر بنا تفسيرهم للكلية أنها استعراض صورة جزئية عند سماع الأسماء الموضوعة لها أو قراءتها. ولما جزموا بأن المعاني ألفاظ وحسب، انتهوا إلى أن مدار العلوم على ألفاظ. فإنكارهم للعقل قضى عليهم بإنكار قيمة العلم. 

أجل إن اللفظ أو الاسم غير متعلق بصورة جزئية معينة؛ هذا قول صادق، وأصدق منه وأصرح أن نقول: إن الاسم كلي حين يتصور الذهن الكلية، وأنه يصير جزئيٍا بالإشارة إلى عين من الأعيان، كأن نقول: هذا الإنسان وهذه الشجرة. ويعود كليٍا حين نستعمله بصيغة الجمع فنقول: الناس والأشجار. أو بصيغة مهملة مثل: إنسان ما وشجرة ما.ٍ  فما هو السبب في إمكان وضع الاسم مستقلا هكذا عن الصور الجزئية، وجميع إدراكاتناً  واقعة على جزئيات فيما يقولون؟ أليس هذا دليلا ً قاطعا على أن المعنى والكلية سابقان على الاسم، وأنهما السبب في وضع الاسم، وأن لا قيمة للاسم إلا إذا قرن به المعنى وأدركت الكلية؟ ليس التفكير لوك ألفاظ، ولكنه إدراك الأشياء المدلول عليها بالألفاظ. ونحسب أن كل هذا من البداهة بحيث لا يحتاج إلى إلحاح.

يلزم من ذلك أن العلوم تدور على أشياء لا على ألفاظ كما يدعون. وقد اعتقد باركلي أنه يؤيد المذهب الحسي في هذه الدعوى باستشهاده بالحساب والجبر كعلمين اسميينً  يدوران على علامات عرفية لا على أشياء، ولكنه كان واهم ً ا، فقد نسلم جدلا باسمية هذينِ  العلمين، فتبقى لدينا موضوعات سائر العلوم وهي تمثل أشياء واقعية، فهي تتطلب تفسيرًا آخر غير الاسمية. ولكننا لا نسلم بما يقول؛ فإن لكل من الحروف المستخدمةً  في الجبر، ولكل من الأعداد المستخدمة في الحساب، دلالة خاصة تجعل المدلول في حكم الشيء الواقعي، فيرجع العلمان إلى حكم سائر العلوم: ففي الجبر تدل الحروف دلالة مطردة على كميات معلومة أو مجهولة، وفي الحساب تدل الأعداد على كميات معينة، وتعتبر بمثابة الأنواع الواقعية، فيختلف بزيادة وحدة أو إنقاص وحدة، كما يختلف «الحي» بزيادة «الحاس» أو حذفه، وكما يختلف «الحيوان» بإضافة «الناطق» أو حذفه  على ما هو ظاهر في شجرة فورفوريوس. ولما كان العد أو الحسبان في العلمين منهجاٍ   مستقلا ً عن المعدودات منطبق ٍّ ا على أي منها، فإن العقل يصرف النظر عن المعدودات، أي عن الموضوعات المدلول عليها بالعلامات، ريثما يجدها عند التطبيق. وعلى هذا الاعتبار يستخدم الرياضيون الأعداد والحروف ويؤلفونها بعضها مع بعض في كل علم. أما إذا كانت عاطلة عن كل دلالة فكيف نفسر العد والتأليف والتطبيق؟

ٌّ الإدراك العقلي سابق إذن على اللفظ مستقل ً عنه، ويتضح هذا الاستقلال أيضا بالمقارنة بين طوائف الألفاظ وبين الإدراك المقابل لها في العقل: فمنها الألفاظ المشككة، تلك التي تقال على كثيرين مختلفين بالماهية، فتنطبق باتفاق من جهة وافتراق من جهة أخرى، مثل قولنا: «منظر جميل، وتمثال جميل، وقصيدة جميلة، وغناء جميل»، أو قولنا:َ  «إنسان طيب، وفاكهة طيبة، وقلم طيب»، فإن لفظي «الجمال والطيبة» ينطبقان على الموصوفات بمعنى عام، هو وجه الاتفاق الذي يذكر في تعريفها حيث نقول: إن الجمال تناسق ورونق، وإن الطيبة موافقة الشيء لماهيته أو للغاية المنشودة منه. ولكن العقل يعلم أن الجمال أو الطيبة لا يتحققان في الموصوفات على نحو واحد من حيث إن لكل منها ماهية خاصة، فليس جمال التمثال كجمال القصيدة، وليست طيبة القلم كطيبة الإنسان أو كطيبة الفاكهة. وبهذا العلم يدخل العقل في إدراكه لكل موصوف معنى ليس في اللفظ ولا يمكن أن يكون في اللفظ لتعدد الموصوفات واختلافها.

ً وثمة شاهد آخر على هذا التمايز بين المعنى واللفظ، هو أن لفظ ً ا موضوعا لمعنى  معين بالمطابقة يوحي أيضا بمعنى متضمن فيه أو لازم عنه، مثل دلالة كل من لفظ البيت ولفظ السقف على الحائط. وليست هذه الدلالة راجعة إلى اللفظ، بل إلى العقل الذي يدرك أن ما يدل على الكل يدل على الجزء بطريق التضمن، أو أن ما يدل على جزء ما فهو يدل على جزء آخر متصل به، فيصرف العقل اللفظ الموضوع للأول بالمطابقة إلى الدلالة على الآخر بطريق الالتزام أو الاستتباع.

وشاهد ثالث يؤخذ من المترادفات؛ فإنها أسماء مختلفة متواردة على مسمى واحد، وذلك لأن الألفاظ عرفية وضعية لا دلالة لها بذاتها وأن العبرة بفهم العقل.

وشاهد رابع نجده في الألفاظ المشتركة التي يطلق الواحد منها على مسميات متباينة كل التباين: كما يطلق لفظ العين على منبع الماء والعضو المبصر والدينار، ويطلق لفظ الكلب على الحيوان المعروف وعلى الشعر، ويطلق لفظ المشتري على قابل عقد البيع وعلى الكوكب الذي في السماء … وغيرها كثير في جميع اللغات. فههنا ليس للفظ مدلول خاص،ً  ولكن العقل يخصص المدلول في كل حالة تبعا لإدراكه هو. وإذا قلنا إن هناك وجه شبه هو الأصل في الاشتراك، رجعت هذه الألفاظ إلى المشكلة وبقيت النتيجة التي نريد أن نبينها، وهي أن فعل العقل هو الأول وأن اللفظ أداة ليس غير.

ٍ بل إن استقلال التعقل عن اللفظ يظهر من وجود معان دون ألفاظ، وهذا ما يسميه علماء النفس المعاصرون بالفكر الضمني Pensee implicit ، ويضربون له شتى الأمثلة: منها الشعور بالذات وبالحرية وبالتبعة، والمواقف العقلية الناجمة عن أمثال هذه الأقوال:ْ  انتظر ْ ، اسمع ْ ، انظر؟ والشعور بالانتباه والعجب والشك وبالسهولة أو الصعوبة بإزاء مهمة ما، والانتقاد الصامت لما نقرأ أو نسمع أو نرى، والشعور بالوضوح، والشعور بالاتفاق أو الاختلاف بين أمور عدة معروضة علينا، والشعور بالتردد بين فكرتين أو بين عاطفتين أو بالانتقال من الواحدة إلى الأخرى، واختمار الأفكار والعواطف في اللاشعور قبل أن يتعين ويطلق عليها اسم، والفكرة الفجائية تخطر لشخص يجيد عدة لغات ويحب اللغة التي يعبر بها عن فكرته. فكيف يزعم الزاعمون أن المعاني ألفاظ وأنَ  التفكير تنسيق ألفاظ؟ إن هذا البحث في التصور الساذج ليدل الدلالة القاطعة على بطلان المذهب الحسي وكم سنصادف من أدلة قاطعة فيما يلي من بحوث!